الأحد، 14 نوفمبر 2021

الانسان المهدور


نسمع كثير ويتردد علينا مصطلح الهدر، هدر المياه ربما أو هدر الحياة الفطرية وهدر الحياة البيئية مثل الاحتطاب الجائر. هدر الموارد البشرية. وكثير يطرقنا دورات للحد من الهدر المادي مثل سوء إدارة أو حتى مشاريع غير مجدية. كل هذه الأنواع من الهدر مشاعة ومنتشرة عالمياً.

لكن هل سبق وسمعتوا عن الهدر الذاتي. هل يمكن أن يهدر الانسان ذاته؟ طيب هل مر عليكم من قبل مصطلح الانسان المهدور؟

غالباً الكل بمجرد ما سمع مصطلح (الانسان المهدور) إلا وأعقبه بتنهيدة طويلة وربما ابتسامة مائلة وساخرة وهو يؤكد "أي بالضبط هذا أنا".

لاعليك.. يبدو أن لكل منا نصيبه من الهدر باختلاف درجاته وألوانه ومسمياته. لكن واجبنا اليوم ندلك على بداية الطريق للمعرفة حول هذا الأمر لتتحسس روحك وتكمل طريقك ببالغ السكينة وبهدوء العارف والمدرك لنفسه.

خلونا في الأول نعرف مع بعض معنى الانسان المهدور. بتعريف بسيط في إطار اجتماعي ونفسي.

هو التنكر لإنسانية الانسان. وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه.

 ولغوياً كلمة الهدر أو الهادر نفسها. تعني الساقط الذي ليس بشيء فبالتالي انعدام الكيان والقيمة. والسماح بالتالي للتصرف بالشخص, كشيء بدون مانع منه. مثل مانقول أوقات (فاقد الأهلية).

إذن الهدر الإنساني ليس حالة نادرة. وإنما هي حالة عامة تتفاوت في الدرجات بين أكبرها كاستباحة الدم. إلى عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات وكذلك سحب الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة وحتى الحق بالوعي بالذات والوجود، مما يفتح الباب لمختلف أنواع التسخير والتحقير والتلاعب والإساءة. 

إذن هناك هدر صريح مثل إراقة الدماء بملامحه الصريحة والبشعة. وهناك هدر مقنع ومغلف مثل سلب الحقوق والحريات واتخاذ القرارات.

ونحن بدورنت نحب نسلط الضوء على الهدر المقنع. الهدر الذي من الممكن أن يتغذى على حياتنا وطاقاتنا دون وعي منا. من الممكن يضيع عمرنا ونحن في دوامة من الهدر المخفي دون أن نتبين ذلك. مثل هوَّة بالغة تتغذى على طاقاتنا.

بمعنى صريح. وبدون مجاملات وتغليف. من الممكن أن تكون شخص مهدور فعلاً دون علمك.

فتعال معنا لتتحقق من الأمر. هل أنت كذلك أم لا.


يبدأ الهدر في الغالب عند صناعة الانسان. بطريقة التعامل معه وذلك هو مايحدد حجم الهدر الذي قد يتعرض له.

من خلال التعامل معه ليس باعتباره كيان مستقل وله قيمة وتقدير. انما باعتباره إما أداة. أو عقبة. أو مصدر تهديد أو عبء أو حتى حمل زائد.

نسمع في حياتنا اليومية كثير من الرجال يكرر الأهل يعاملوني كأني صرافة. أو بعض النكت المنتشرة كيف يتحول الرجل بعد الأربعين لسيارة وفلوس. وليه نقول بعض النكات؟! فيه صورة نمطية غالباً عالمية عن الرجل. وأن قيمة الرجل فقط في كم يبلغ رصيده البنكي واش هي سيارته.

كلنا مر علينا المثل (الرجال مايعيبه إلا جيبه). هنا تحول الرجل لمجرد أداة أو طريق .. 

وكثير نقرأ ويمر علينا ردود على تويتر في تحجبم دور المرأة واقتصاره على المطبخ. وكثير يستخدم هالجملة دون وعي بمخاطرها تماماً "اش فهمك وعلى المطبخ".

أو تحديد دور الفتاة والتضييق عليها لنسمع منها في غضب "أنا مو بزر .. أنا موهبلة .. أنا مو شخص فاقد الأهلية لتضطر لحمايته والدوران حوله وتضييق الخناق عليه" وممكن يصل الأمر لمرحلة حرمان من حق مشروع كالتعليم والوظيفة والعلاج أو حتى الاستمرارية في التطوير الذاتي وتصوير الكيان المستقل كعبء أو حمل زائد.

وقد يواجه الشاب نصيبه من الهدر. في التدخل في شؤؤنه واختياراته وقراراته. حتى ممكن يتجاوز الأمر لاختيار تخصصه وممكن المدينة المفترض أن يدرس أو يعمل فيها. العايلة التي من المفترض يأخذ منها. حتى نصل لمرحلة من تكوين جيل معدم الثقة وغير قادر على القيام بأدنى مسؤولياته وواجباته. 

لنصنع بذلك جيل كامل يرزخ تحت ضغط الهدر الإنساني.

وهذه إنما هي مجرد ملامح من الهدر الممكن واليومي والمعاش. وليس جميع صور الهدر الذي من الممكن أن يتعرض لها الانسان.

الدخول في علاقة غير متكافئة هدر.

حمل كامل المسؤوليات على عاتقك دون مناصفة هدر.

احتمال علاقة اجتماعية تتغذى على التحقير والتقليل من شأنك وإهانتك على الدوام هدر.

الصبر على أذى متعمد منصب عليك وتقبل آراء الآخرين دون احتمالية الرفض هدر.

متابعة فيلم لايعجبك لكن مصر تكمله لنهايته لأنه فاز بالأوسكار مثلاً .. مثال بسيط على الهدر.

من الممكن أن تكون صورة نمطية عن الحياة السعيدة والكاملة, تتركك تحت ضغط الشعور بالهدر. مثل تخرج في سن معين ثم الحصول على وظيفة في سن معين ثم يتوجب عليك بعدها التفكير في الارتباط والزواج وتكوين أسرة. ومن الممكن أن تكون مثل هذه الصور النمطية معول الهدم الذاتي.. 

مثل منبه لايتوقف عن تذكيرك ب"القطار وفاتنا" ليتوجب عليك بعدها أن تشمر عن ساعديك وتركض بكل طاقاتك الكامنة لتلحق الإطار المثالي الذي تعلق فيه روحك. 

سن محدد للزواج يجعلك تحت هاجس ورعب من كونك عانس. كل ذلك عوامل مساعدة للهدر.

صورة مثالية عن الحب من ورد أحمر وبالونات وهدايا قيمة لازم. وحبيب أو حبيبة يتذكرك في هذا اليوم بالذات.. يجعل من يوم عابر يالله شديد الوحدة والكآبة دون رفقة.

تخيلوا كمية الهدر الممكن في حياتنا. تخيلوا حجمه. تخيلوا كمية الإمكانيات والطاقات المهدرة تحت ضغط المجتمع ورفضه من تقبله.

كيف لو قلنا أن الهدر هذا ليس أمراً مستحدثاً. ليس شيء واقف منتظرك على بوابة شبابك وقوتك. ليس متوقف تماماً مكتوف الأيدي ينتظرك حتى تكون قادر على مواجهته.

بل هناك هدر يبدأ منذ نعومة أظفارك. نعم للأسف. قد يبدأ الهدر معك منذ طفولتك.

فهناك فئات يجدها الهدر وجبات شهيَّة. يتغذى عليها بكل طاقته.

الفئة الأولى الأطفال وفترة الطفولة:

هدر الطفولة. فبدلاً من رعايتهم وتطويرهم والاهتمام بحاجاتهم النفسية. يحصل العكس فيتم قمعهم وتهديدهم وتبديد طاقاتهم. قد نقول بالمعنى الأصح "تعليبهم أو تصنيعهم" تحويلهم من كيان مبدع في ذاته وبالقوة الجبرية نريد منهم النضج. معاملتهم كأدوات لتحقيق أهداف ومطامع الأهل.

وليس أصدق من حديث الرسول الكريم " كل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه.." الحديث.

ثم نأتي على الفئة الثانية :

وهي المرأة. الهدر هنا يأتي في جعلها ملكية خاصة. ليندرج تحت هذا الهدر جرائم وتعدي وسلب حقوق وحريات لاحصر لها. تحت مسميات الشرف والعار والبنت مالها إلا الزواج, وتأجل الحياة الطبيعية والتي من المفترض أن تعيشها لحياة مؤجلة بيد الزوج. 

هذا الهدر يطال حياة بالكامل يلفها كجريدة بالية ويضعها تحت ابطه.

الفئة الثالثة:

هدر الشباب. بتحييدهم عن اتخاذ القرارات ومنعهم من المشاركة في صناعة الحياة وحبسهم في قوالب جامدة لاتتناسب مع طاقاتهم المتفجرة. سيتحول الشباب من جيل نشط ومبدع ومتقد الذكاء. لجيل متقاعس وكسول وينتظر قائمة بالأوامر المطلوبة منه ليقوم بتنفيذها فقط.


بعد كل هذا الهدر المسلط. الهدر الخارجي. سيفقد الانسان المهدور مناعته النفسية. سندخل مرحلة من الهدر المرضي ويدعى بالمرض الكياني.

أي ببساطة وكأنك بعد فترة طويلة من الهدم وأنت تحت معاول الهدر, ستمسك أنت بزمام الأمور وستكفي العالم الخارجي همك وتقوم بدورهم في هدمك وثم تدخل بخطوات رشيقة لمرحلة الهدر الذاتي.

إي نعم. هنا نقدر نجاوب عليك ونقول لك للأسف من الممكن أن يهدر الانسان ذاته.

يفعل ذلك عندما يدخل في مرحلة من التكرار والاجترار. بدلاً من التغيير والإنماء.

مثل فقدان الحماس الذي يطال الكثير من المشاريع الناشئة والحالة التي تغلب أصحابها قبل الفوز وتحقيق الهدف بخطوات.

بين قوسين (يتحول الهدر الخارجي لهدر ذاتي  ومنه وفيه . حين تنجح عملية حصار الطاقات والعقول والوعي وتثبيط عزمها).

تبرز بعدها آلية داخلية .. وركزوا معي في هالنقطة. تبرز بعدها آلية داخلية تتغذى على الاستسلام. والوقوع في حالات من الإدمان. والإدمان هنا ليس فقط منصب على إدمان المخدرات. بل باب واسع من الإدمان " ادمان علاقات.. أدوية .. اهتمام .. أفلام ..ألعاب .. قائمة لاحصر لها من الإدمان"

والوقوع فريسة للإكتئاب. إكتئاب لايقتصر على تبديد الطاقات والمبادرات. بل يتحول لنوع من اللذة في النواح والاستعطاف والشفقة وعيش دور الضحية.

هنا نقدر نقول أن هذا شخص فقد مناعته بالكامل وتحول للهدر الذاتي.

نحن أمام سيادة سطوة الموت و رغبة التدمير على نزوة الحياة والإنماء * كما يذكر فرويد.

ربما يكون الأمر مزعج والحقائق موجعة للبعض منا، لكن آخر العلاج الكي، هذه المعرفة المتاحة لك تجعلك تستعيد سكينتك وهدوئك لتتذكر ذاتك العظيمة المخبأة تحت الركام. قبل أن تتحول أنت لمعول هدم في مواجهة نفسك.

فنحن أمام سلسلة من الهدر الدائر. فكل مهدور سيهدر ما إن تتاح له الفرصة لفعل ذلك. سيهدر ماسواه من طاقات وأفكار إبداعية وطاقات واهتمامات. سيتحول الانسان المهدور لقنبلة موقوتة من الممكن أن تكرر انفجاراتها كل حين. لنرى صور جديدة من التنمر والتسلط والسخرية والتحقير وتحجيم حجم الإنجازات والتقليل من شأن النجاحات. كحجارة ومسامير ملقاة في طريق السالكين.

النقد الجارح وتسليط الضوء على النقائص والاصطياد في الماء العكر.

لذلك كانت هذه المادة الدسمة من المعرفة المبسطة لتقف حلقة الإهدار عندك. وإن لم تتعافى من كل هذا الهدر الذي يقض مضجعك. لاتترك أحداً يعاني الهدر بسببك. لتكسر سلسلة الهدر عندك.

أنت تظن الآن وكأنك مصاب بمرض قاتل. وكأنك تحولت لساعة رملية يتلاشى بعضك مع الوقت. لكن الأمر ليس بهذا السوء. فالمعرفة المكثفة ليست مجردة من علاج.

هنا أطلب منك كشخص يهتم لأمرك. ويشعر بالإهدار بشكل أو بآخر مثلك. أن ترجع للمادة السمعية من بودكات ساندوتش ورقي والتي بعنوان فن التجاوز.

بالإضافة للمادة المقدمة في فن التجاوز هناك نقاط أو اعتبره مضاد حيوي ونفسي للبدء في التعافي.

كلنا نقول أنت عندك الآن المعرفة وهي سلاح. بعكس آخرين يعيشون الهدر بصور مأساوية ربما دون انتباه منهم. وهذه خطوة.

نقلك بعدها استرخي.. بكل مافيك استرخي. عيش كل لحظات الاسترخاء الممكنة عندك. كوب شاي نعناع مثلاً. كوب حليب دافئ وملعقة من العسل. قطعة شوكلت مع فنجان قهوة. ثم ارمي بكل الصور النمطية والمثالية المعلقة في رأسك للنجاح والسعادة والحياة وكيف ترضى عن يومك وتخلص منها فوراً. عيش اللحظة برأس فارغ مثل إعادة تهيئة. تفريغ لكل الصور المعلقة في رأسك. اترك شبابيك روحك مفتحة لتجديد روحك والانطلاق.

وتذكر أن العلاج في اثنين.

احترام الذات .. وتقدير الذات.

احترام الذات وكأنها شخص مستقل بذاته عنك. قد يبدو كلامي ضرباً من الجنون. لكن لا حقيقي اعتبر الذات كائن منفصل عنك ومستقل بذاته. له ماللآخر من اهتمام ورعاية واعتذار في حال أسأت الظن به أو تجاوزت الحدود معه أو أخطأت في حقه. لايمنع أن تعتذر بصوت مسموع يعلو صوت مكائن الهدم داخلك. 

أن تمنحه مساحة مقبولة للخطأ والمغفرة والتجاوز والتغافل. لاتترك نفسك عارياً تحت المجهر للتدقيق والنقد.

خلال ال24 ساعة في يومك. امنح نفسك وقتاً تصفح فيه عنها وتطمئنها وتذكرها بأهدافه السامية التي خلقت لها. أو طموحاتها التي بدأتها. وأحلامها التي لاتتطلب منك تفكيراً أكثر بقدر البدء في العمل وفوراً. لن تخسر شيئاً ما أن تجرب.

ثم ابدأ في تقدير ذاتك.

هل ترى هذه العلاقة تناسب روحك دون أن تسرق منها؟

هل تجد هذا العمل متسق مع اهتماماتك واحترامك لذاتك؟

هل هذا المكان ملائم لك؟

التقدير الذاتي والاستحقاق العالي يقفز بك قفزات واسعة للبناء النفسي ولاستعادة حصونك المناعية.

ربما سنتكلم في وقت ما عن الاستحقاق الذاتي..

العلاج بالتفكير الإيجابي وتنشيط هذا التفكير وأنت بكامل وعيك وكأنك في حرب وهذا سلاحك الوحيد الممكن بيدك. تضعه نصب عينيك. التفكير الايجابي بقصد ووعي. ومن ضمن التفكير الإيجابي, العواطف الإيجابية وتنميتها وتغذيتها, لاتقول أنا شخص كريه وثقيل دم وحضوري معتم. ولاتترك للأفكار السوداوية الحبل على الغارب لتدور حول علاقاتك وتخنقها.بل تعامل معها بغباء. ماهو واضح لي وأمام مرأى عيني فهو الحقيقة الوحيدة هنا. لن أفسر التصرفات والالتفاتات حسب رغبتي. 

نعم أنا شخص مؤثر ومهم ومحبوب مادام لم يصدر مني مايخالف ذلك.

العلاج بالارتباط بقضايا كبيرة له يد في التحرر من الهدر الذاتي ويساهم في رفع التقدير الذاتي.

أخيراً

المواجهة

مواجهة مخاوفك بقلب قوي وفكر واعي تماماً لمايدور حوله ومايعيشه الآن. اشحذ همتك في كل مرة وحدد أهدافك. فأنت بدون هدف سيستخدمك الاخرين في تحقيق أهدافهم.

الآن أريد أن أسألك..

هل تجد نفسك انساناً مهدوراً؟

هل أنت الآن وبعد هذا البودكاست مثلما كنت قبله بلحظات؟

الاثنين، 4 أكتوبر 2021

مايحكيه حبل غسيل طاعن في السن.


 

وكأن هذه الحبال المنتظرة مطولاً بين بيتين ولا تنتمي إلا للشارع، تخبئ من الأسرار أكثر مما تحتمل.

كم طفلاً يقطن هذا المنزل، كم طفل يحضر جديداً تماماً على هذه الحياة الرتيبة، بملابس تأكل القلب ومقاسات بحجم الكف، كم طفل آخر يحظى بثياب بالية تماماً وشعور قديم وعلى الرف على نفس الحبل.

كم عجوزاً يضم المنزل المقابل ليحمل حبل الغسيل ثيابها المتكررة في دورة غسيل لا تنقطع، لتكون ثيابها بهذه الألوان الباهتة والمغادرة، لتكون ثيابها بهذا الشكل من القدم. وتشبه أحاديثها المتهدجة والرتيبة والبطيئة.

ليخبرك آخر كم رجلاً يقطن المنزل المجاور وكم طفلاً يركض في ظل أبيه، يلبس الثياب البيضاء لتنتشر مشعة تحت أشعة الشمس وتجاورها ثياب بيضاء صغيرة وكأنها تمد أكمامها لتقبض على أكمام راشدة في دورة تحليق لاحقة، أبيض شاسع وواسع يمتد يملأ حبل غسيل في منزل مجاور، وعباءة تختار زاوية ضيَّقة تحشر نفسها داخلها، مقابل كل هذا البياض تحضر كل هذه العتمة.

فساتين تملؤها الأزهار والألوان، تنشر على ضفة شقة ضيّقة لكنها تبدو رحبة على حبل غسيل، مزهرة وتحمل رائحة من البهجة والفرحة وكأنها خطت خطوات راقصة قبل أن ترتاح على حبل غسيل. تستعيد طاقتها.

ألوان أخرى وثياب ممتدة ومجعدة وكأنها خاضت حياة شاقّة للغاية لتبدو وكأنها لا تحمل ألوانها الخاصة، بينما صبغت بألوان ثياب حجزت قصراً معها، أو أنها حياة شائكة جداً لتتحمل كل هذه الثياب والفساتين وبدل رياضية لعمر سنتين وأخرى بمقاس خمس سنوات ألوانهم مجتمعة. دون أن تحمل لوناً خاصاً بها تزهو به.

قوالب من ثياب تعرف تماماً أنها تحمل مشاعر مجمدة، تحضر دائماً بصورة مثالية لكنها خاوية، رغم أنها ترتاح على حبل غسيل لكنها تبدو وكأنها انتهت من مرحلة الكي، تبدو ثقيلة حتى يرتخي حبل الغسيل تحتها.

وأخرى تعيش قصة حب ممتدة وفسيحة، وكأنما حتى وهي تتمدد على حبل غسيل متهالك تبدو وكأنها في خضم ضحكة، وكأنها تستمع في انصات لحديث شيَّق يعزف على مسمعها، وكأنها تتكئ على أكفها وبعيون ملؤها حديث أكبر من أن يتهندم ويحضر. لكنها ترفرف في الغالب حتى في عدم وجود هواء مجاور. تعبر من تحتها وكأنما هي تصبغ عليك من ألوانها، حتى من رائحتها المنعشة.

 

 

وأنا كحبل غسيل ممتد بين شعورين.

وي كأن هذه الحديّة البالغة بي، هي شعور مشدود ومثبت بين بيتين، حتى أن العصافير التي ستمر به أو تحط عليه ستوجعه، حتى رفرفة الفراش من حوله سترهقه، سيزيد المطر الوضع سوء حتى لو لانت أطرافه، مادام ستعقب هذا المطر شمس ساطعة.

 القبض على كف وكأنها القبضة الأخيرة حتى تتوجع أطرافي، الضغط على أسناني وكأني أحاول الشد على غضب عارم لا يخرج، الصوت النافر عند أبسط حديث ولو كان عابر. وكأن هذا الجسد قضى وقتاً وهو في حالة انتصاب حتى أرهقت الأيام أقدامه، بظهر مستقيم يكاد ينكسر، وبكاء يسكن بين عينين. ينتهي دفعة واحدة بقبلة منك على جبين غاضب. حتى أفلت كل هذا السأم من بين يدي، ويغادرني هذا الغضب، حتى تتحرر خطواتي المتجذرة للدوران والرقص.

هل ستهديني أغنية؟

بالي أنساك .. مستحيل.

عقلي معاك نهار وليل.

واعديني .. لاتفارقيني.

واعديني.. لاتخليني.

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2021

نوستالجيا _ مجلة كابتن ماجد أنموذجاً.

 أعبر منطقة ضبابية مؤخراً، ويتكاثف الضباب في صدري. ولايمطر.

غير أني أشتت هذا الضباب الكثيف القاتم بمجلة كابتن ماجد. أحاول توزيع هذا الشعور المعتم في صدري، بحفنة ذكريات تلمسني جداً.

ربما كانت نافذتي لمعرفة المشاعر. دون أن ألمسها حقيقة. مثل أن أمضي ليلة دافئة بأكملها أغني أناشيد قديمة بصوت يتهدج مثل رغبة عارمة في بكاء.

مثل صندوق ذكريات لكنه يفتح تلقائياً للتخفيف عني، يبدأ بألحان وتمتمات لأناشيد قديمة ثم يصبح أغاني هندية عرفتها في المراهقة وأفلام عظيمة خلقت مشاعر من الدهشة والرغبة في الرقص. أبطال مثل شاروخان وسلمان خان وريتيك روشان والبطل الفاتن سيف خان الذي أسرتني ضحكته وطريقته في التعبير وربما بعض الحركات الرشيقة التي يقوم بها. ربما كانت ضحكته فقط. بينما أجدني منجذبة تماماً للضحكات. وكأنها بضاعة تنقصني بشدة. أراقب الضحكات الملونة والتي تنطبع ضحكة صاحبها على ملامحك. بعيداً عن ضحكة تبدو ملئها سعادة لكنها ترافق أعين يملؤها حزن بالغ.

ربما أن هذا الحزن يكبر كل يوم. ولم أعد أطيق احتماله. وكأنني في موقع جغرافي يختار لي حياة بائسة ضيّقة على مقاسي. أو أنني أشهد في شعوري اتساعاً تضيق عليه الحياة. 

اليوم كان نصيب الأغاني الهندية، ربما أنا فقط مشاقة لابنة أختي. رفيقة الرقص والأغاني والضحكات الواسعة والبهجة. مثل أن أشعر بالسأم ثم أختار أغنية لشاروخان مع كارينا كابور ثم أطلب منها تقليدها البارع للرقصة. حتى ابتهج إلى أقصاي. 

تذكرت عندما ألحيّت في طلبها لأن صديقتي تشعر بالملل كذلك وأريدها أن تقشع هذا السأم بخطواتها الرشيقة. تضحك في حرج بينما تفعل خطواتها ما طلبتها منها. 

اليوم أنا أشعر بالسأم واخترت قائمتها من الأغاني الهندية التي تحفظها وتغنيها وتدرك معانيها لكن بدون ابنة أخت تكمل هذا الحفل برقصة  

حاولت جاهدة تقليد بعض الخطوات المحفورة في الذاكرة  لكن ضحكة العاملة المنزلية بينما أفعل تركتني أفكر في الأمر مرة أخرى  


ربما أنا أفتقدها فقط  وربما هي لحظات غمامة سرعان ما ستنجلي وأنا أشتتها بغلاف مجلة كابتن ماجد  




السبت، 11 سبتمبر 2021

مشاعر في ثلاجة تبريد.

 

وكأن هذا القلب من حديد.

وكأنما كل يوم هو باب يغلق دوني، ويغلق من دونه باب.

كشعور منغمس في الوحشة.

باب يغلق دون أمومة واضحة ومكتملة وبين طفولة نيئة وغضَّة وتتجعد.

تختار فيها القرفصاء تعريفاً لاحتضان لا تعرف ملامحه لكنها تحتاجه.

كانت هذه المسافة من أبواب متتالية تغلق في صدري يوماً عن آخر.

حتى كانت هذه المسافة بعمر يقطع الثلاثين في المنتصف.

في منتصف الشعور المنعدم، والآخر على شرفة الوجع. صفراً من أي مشاعر يبتدئ فيها طفل خطواته الأولى في حياته.

إكتئاب مابعد الولادة، كان من حظوظي الضئيلة أن يرافق ولادتي اكتئاباً لا ينفك يذكر أمي أني مجرد شعور يصرَّ ومؤذي ويضحك وواسع وشقي ومنطلق. وكأنما أنا بقعة عتمة تتحرك في حياتها، فكانت كل هذه الخطوات الرشيقة تنغرس عميقاً في صدرها فتكح.

لأنتظر أسبوعين دون صدر ألتقمه ومن دون حضن دافئ، فقط خطوات على عجل وبعمامة حمراء وثوب أبيض يسميني ويكبر في أذني ويغرس اصبعاً في كفي تقبض عليه أكف لينة وناعمة.

فكان أباً لي وكان أول ملامح الأمومة.

سرنا في هذه الحياة جنباً إلى جنب " أنا وأمي"، لا نتقاطع إلا ليفصل بيننا أبي. كنت كمن يحمل ذنباً في عاتقه يكبر مع الأيام.

ثم كل هذه المسافة التي تسكن بيننا.

حتى ينتهي عمراً بأكمله لم يعرف من الشعور إلا شعوراً ضيَّقاً ونزقاً ويتضجر بكل غضب.

ليكون في الأفق علاجاً مفاجئاً ومتأخراً مثل جنبريد. فقط لوعكة صحية تأخرت لثلاثين سنة.

وكأن أمي أفاقت بعد سنوات فخرجت مشاعرها من تابوت، لتبحث متأخراً عن يد غضَّة ولينة لتقبض عليها بأكف تملؤها التجاعيد، لكنني الآن أملك أكفاً جافة وأظافر حادة وأحفظ مشاعري في تابوت.

الجمعة، 20 أغسطس 2021

شهار وصوت طاحونة يدور في رأسي.

كيف نكتب بهالطريقة؟
كيف!؟ مافهمت
يعني اذا كنت أنا معتمدة على خيالي فقط ولغتي والوصف فأين المشهد والحبكة المطلوب كتابتها. 
والمطلوب؟
حظهم .. 

الكتّاب. 

أقلّها تلهمه شخصية عبود اللجة .. وهو يدخل عليهم في مقهى شعبي.. بشماغ أكل عليه الدهر وشرب.. وكأنه يضعه على كتفه يخبئ داخله أسراره أو يثبت به أكتافه الهزيلة، وهو ينادي بصوته كله: شاهي مننتاااز. يتكئ على النون وكأنها عدد ملاعق السكّر المطلوبه في براده. 
صوته الجهور رغم ضآلة حجمه وكأنه في حياة سابقة يعمل مايكرفون. يتجه مباشرة لزاوية المقهى وطاولته الأخيرة.. ثم يبدأ صف الضومنة وهو يتحدث لأصدقائه المنتظرين حادث سير صادفه في طريقه وتفاصيل الحادث وموديل السيارة وتخمينات بمدى سوء الحادث .. بعدها يطلب سيجارة ويلعن ارتفاع الأسعار .. رغم أنه لايملك حق البكت ولايعرف كم بلغ سعره.. فهو يحمل بكت فارغ ويتظاهر كله مرة أنه للتو ينتبه لإنتهاء السجائر .. ثم يطلب ممن هم حوله سجارة. 
لعبة قديمة والكل يعرفها لكنهم يدارون على كرامة عبّود اللجة في كل مرة. 

تعرفين حتى اختيار اسم عبّود اللجة غير مناسب للقصة .. ويتضح كيف أني أحاول المرور عبثاً للشارع .. ثم أعود مجدداً للحديث عن ماذا لو تحدثت أدمغتنا بمعزل عنّا.. ماذا لو اخترنا أحلامنا قبل النوم.. ماذا لو أن المسافات التي أقطعها في الحلم تخسرني بعض الباوندات .. ماذا لو اخترت الحلم المناسب حول لغة جديدة أتعلمها.. وكل يوم أبدأ درس جديد وأستفيد من ساعات النوم المهدرة والتي لاينام فيها دماغي بشكل تام ولكنه يبدأ في الدوران والركض والصراخ والضحك وكأنه أخيراً تخلص مني ليبدأ دورته في الحياة. 
تماماً مثلي وأنا أؤجل النوم لساعات طويلة سعيدة بالهدوء الذي يعم المكان بعد عاصفة العائلة الكريمة .. 

والآن عن الأحلام يالله.. هل تعلمين أنني بدأت أشك أنني كل يوم أترك نافذة مفتوحة يتسلل فيها واقعي لأحلامي .. يختلط الصوت واللون والظل في واقعي بالأبيض والأسود في أحلامي.. فأصحو إما على واقع يفقد ألوانه أو أحلام شديدة السطوع تصيبني بالصداع. 

ماذا عن عبّود؟ 
عبّود.. 

عبّود كان من الممكن أن يكون شخصاً جيداً للغاية، مثل مايتمنى..الرجل الوحيد الذي يجيد التعامل مع الأسلحة بكافة أنواعها في قبيلته، الرجل الوحيد فيهم الذي أخذ على عاتقه تدريب كل من يقترب منه بطريقة هادئة على علوم المرجلة.. طريقة اختيار البن .. تنقيته .. غسلة .. حمسه .. واللون المناسب من الحمس لألذ قهوة.. ولاتغسل الكفكيرة الصفراء البالية بالصابون واكتفي بشطفها بالماء والأسفنج .. يكرر على أحمد تدري ليش؟ علشان نكهة البن فيها تبقى معتقة.. وكأن للكفكيرة ذاكرة مهمة في إنضاج القهوة كل مرة بالنكهة ذاتها. 

ماذا حصل ليتحوّل؟
لا أحد يعلم ذلك .. فكل المحيطين به الآن هم أصدقاء منحتهم له المدينة، لا أحد يعرف عن عبّود سوى اللّجة.. ولم يصادف أحد من قريته ليحكي عن هذا التحوّل. 

ماذا تظنين؟
كان يحب فتاة ربما.. منع من الزواج بها .. لأنها منحت لصديق والدها في سدّ دين عنه. 
ربما..
أو أنها انتظرت طويلاً لتتزوج به.. لكنه لم يجرؤ على الزواج بها لأنه بدوره تزوج من زوجة أخيه الذي وافته المنيّة في حادث سير. 
ربما..
أو أن مناير بنت جارهم دست لهم عمل .. لأن الحب أعمى. 
ربما..
وربما كان ذلك بعد اكتشافه أنه عقيم لاينجب.. وكل ماتعلمه من علوم المرجلة وكل دروس أبيه له لن يرثها منه أحد. 

لكنه مضطر للغياب في رحلة للمدينة المجاورة .. للبحث عن عمل .. في البدء كان يذهب للمدينة كل يوم في بداية النهار ثم يغادرها آخر الليل لقريته .. وهو يشعر بالإختناق في شارع مزفلت ومضاء ومحاط بالمنازل على جانبيه.. مثل جواسيس قائمة من حوله تلتقط أفكاره.. يهرب من هذا التوجس والريبة بحثاً عن أرض فضاء مشغولة بما في داخلها أكثر مما على ظهرها لتراقبه. 

وبعدين؟ 
اضطرته الطرق الطويلة والمسافات البعيدة كل يوم لهجره للنوم أبداً.. هكذا يبدأ يومه وينهيه دون أن يغمض له جفن. 
كيف تقابل رجلاً مستيقظاً منذ عام؟
كيف ستبدو ملامحه. 
كيف سيكون وجهه خارج هدوءه .. بعيون جاحظة. بقلق دائم.. بصوت عالي. 
كيف سيتفقد قلمه وساعته وجيبه العلوي ومحفظته كل ثانيه في حركة دائمة وكأنه في بحث دائم عن مفقود. لكنه لايدرك أن النوم لن يكون منتظراً في أحد جيوبه. 

ماذا بعد؟
شهار. 

كانت زيارته الأولى لهذا المشفى بناءاً على طلب أحد أصدقاء الطاولة. 
وهو يركز يده على صدغه ويعد دقات قلبه، يكرر بصوت مذهول.. عبّود وكأنك تعيش بقلبين. هذا النبض لايتوقف ولايهدأ. 
أنت بحاجة ماسّة لتدخل طبي.. هذا الدوران والركض والقلق بحاجة لزر إطفاء وإعادة تشغيل. 
ايه يامحمد.. أنا تعبان. 
وأحس أن قلبي نهايته ينفجر .. مثل كفرات سيارة خالد.. ينتفخ وينفجر.
مثل بطارية جوال علي. 
أو أن قلبي كبير علي.. يعني المفروض أكون مثلك طول وعرض علشان يقدر يهدأ قلبي والدم اللي يرسله مسرع مايرجع له. 
ولا أنا كبرت وقلبي في طفولته لسا. 
مدري .. 
عبّود أنت تاخذ أدوية؟ أحد وصف لك أدوية من قبل؟ شيء يعني ممنوع ولا مضروب..
ماخذ شيء غير حبتين بندول كل يوم.. اسكت فيهم صداعي.. آخذهم من جارنا في القرية .. 
هذي هي عندي منها كم حبة.. 
يفرغ جيبه في يد الدكتور محمد. 
محمد يشهق بأعلى صوته بندول ياعبّود .. ولا أبو ملف.

الاثنين، 16 أغسطس 2021

المشي كما لو أنني في حالة هرب.

 

في غيمة ضبابية لكنها سوداء.

قضيت وقتاً طويلاً في حالة من التوقف أو كما يقول المفسر لآخر حلم زارني "عندك تعطيل".

هذا التعطيل بدأ يتجذر تماماً، من أقدامي المتعثرة، من حياة باهتة مؤخراً، من كمية كتب تنتظرني في نصف المسافة لتكملتها، من علاقات وصداقات على المحك غادرتها لأنني لا أملك القوة على البقاء أو التمسك أو حتى أضعف الإيمان مثل التخلي.

هذا التعطيل الذي بدأ يتصاعد من أطرف أصابعي وحتى طال مشاعري، لأدخل بعدها في اختبارات من نوع: حسناً نوف هل هذه الإساءة مؤذية لك؟ هل هذا التجاهل مؤذي؟ هل عدم التقدير هنا موجع؟ هل هذا الحديث يؤرق عينيك؟ هل هذه العائلة لازالت تعنيك؟ هل هذه الروابط العميقة بعمر يشرف على منتصف الثلاثين تعنيك تماماً؟ ليتجلى بيت الجواهري: أهذه صخرة أم هذه كبد؟

لأدرك أن التعطيل غطى مساحة كافية من الشعور. وكأن بحيرة من المشاعر الجميلة والحيَّة والقوية والمتحركة تجمدت كلها دفعة واحدة.

ستتعرض لبعض التكسر هنا وهناك ومحاولات طفيفة من الأصدقاء والصديقات لإعادة المياه لمجاريها، لكن سرعان ما تنتهي محاولاتهم بعودة التجمد للسطح.

لست خارج الشعور فقط خالية من الامتنان. لكنني شخص معلق من قدميه بحبل متين من الامتنان، لكل المحاولات لإعادة المياه الراكدة للحركة.

الامتنان الذي يجعلني أحفظ هذه الجمائل في علب أنيقة في حين عوز، على رف عمري.

لا أنسى جميلاً أبداً، كعادة بدوي في رد دينه.

حتى بدأت أتعرف على رياضة المشي.

المشي كما لو أنني في حالة هرب، المشي في طرق طويلة دون توقف حتى تئز أقدامي على أسنانها، السماعات العازلة والأغاني المرافقة والكثير من المسافات المقطوعة بقدر المساحة المتوقفة في حياتي.

بداية بالمشي لمدة عشرين دقيقة، ثم عشرين أخرى إن لزم الأمر، وعشرين إضافية للهرب من حديث مكرر وبليد ومزعج ويسرق صفاء اليوم ويعكر مزاجي، بدأت تتقطع المسافات إلى ربع ساعة وأخرى عشر دقائق، طوال اليوم.

بدأت السحب الرمادية تتبدد شيئاً فشيئاً.

كنت أعلم أني أمر بمرحلة حرجة في عمري، سوداء وقاتمة، وأن هناك خطب ما يقبض على روحها فيحولها للعتمة، والدليل أنها بدأت هذه المرحلة تتبدد شيئاً فشيئاً وأنا في طريقي للهرب مني.

تذكرت "أرحنا بها يا بلال" غير أني لا أملك من الإيمان القدر الكافي لتكون هذه خياراتي، لكنني أيقنت أن هناك راحة كذلك في كل هذه المسافات المقطوعة.

في كل مرة أصر على السير وأتجاوز عقبات أو حتى إصرار على الكسل والتمدد على كنبة مريحة أمام شاشة تلفاز وكتب وركن عامر بالقهوة والشوكلت. كنت أفتح أزرة ضاقت على صدري. أفتح شبابيك صدئة في بيت عامر بالأدخنة.

ثم بتوصية جميلة من صديق جميل، باستخدام تطبيق NRC بدأت تتحسن جودة الحياة مع رفقة لطيفة تحفزك على الاستمرار. الآن يمكنك مشاركة الركض مع الآخرين، الآن لم تعد هذه الوحدة عائقاً أمام مشاركة الإنجازات اليومية الصغيرة مع الأصدقاء، اليوم كان مزاجي سيئاً لأتجاوز مسافة لم أتجاوزها من قبل، لكنني ابتسمت وأنا أتجاوز الأصدقاء كذلك بمزاجي العكر، اليوم أنا في المرتبة العاشرة وتقاعسي غداً سيؤخرني ثلاث مراتب ولكنني سأمر بيوم جيد لأستعيد مرتبتي العاشرة، وكأنني أحاول التخلص من الرقم "13" كلعنة أبدية.

قطعت في بداية مشواري بالكاد ثمانية آلاف خطوة، ثم أصبحت أقطع عشرة آلاف خطوة شبه يومياً، وصلت في يوم لعشرين ألف خطوة وكانت المفاجئة الصادمة أنني أحتاج يومياً لعشرين ألف خطوة لأنعم بمزاج هادئ ويشبه حقيقتي تماماً. من دون أخطاء ولاتجاوزات ولا مشاعر مترامية الأطراف. حتى رغم الأزيز الذي يصرًّ من ركبتي المصابة، كانت هذه المسافة التي أحتاجها لأنعم بحياة ساكنة. أسابق فيها أفكاري السوداء وتحل علي بعض الرحمة. أخرج من مساحة معتمة للنور.

أخرج من كهف لوجه الشمس تماماً في حضور بحيرة هادئة تتكسر فيها الموجات وتحدث فيها الحجارة دوائر متصلة، العصافير التي أطعمتها عمراً تحلق، القطط التي يتحسن مزاجها لأني ابتسم، الهواء العليل الذي يخترقني.

أخرج من الكهف حقاً، لكنني لازلت عند بابه.

الجمعة، 30 يوليو 2021

أحبك بكل طريقة ممكنة.



حتى بالنسبة لكاتبة مثلي، الكتابة تسري في دمها، تسكن روحها، أجد أن كلمة أحبك عاجزة عن تقدير كميةالمشاعر خلفها، الكلمة ضئيلة جداً وكسيحة. 

فعندما أود قول أحبك، أشعر أن إحتضانك أبلغ. 

وكلما فكرت في"أحبك" منك، وددت لو تتحول لقبلة.

وكل مرة أحاول وصف حجم هذا الحب، مثل أحبك قد عيوني، أشعر أني لو قلت بحجم الكتب التي تعكف عليها كل ليلة وحجم النصوص التي تخطر في ذهنك وبحجم الأفكار التي وددت لو قبضت عليها بقلمي لكان أبلغ.

أحبك كلون جديد يتشكل في قوس قزح. 

أحبك كسلم موسيقي يتطاول وينمو ويتفرع ويحوي نوتات جديدة لم تكن من قبل. 

أحبك فتنمو مدينة ريفية في قلبي، ومطر وغابات وأكواخ ورمال ناعمة وشواطئ ممتدة وأغاني. 

أحبك مثلاً فتعبر بي سفينة شراعية، أشرع لها يدي، فتتحرك الأمواج في صدري.. فتتحول الدماء الكسولة في عروقي للركض والضحك والرقص. 

أحبك فأصبح خيل، لاتضرب الأرض أقدامها، فهي تركض وتصهل في السماء. 

هات يديك من حولي، فأحبك لاتكفي وحدها. 


قاحلة.

وكأنما كنت أخوض في سيل من طين، كان هذا الشعور بالتعلق مثل أثقال مثبتة على أقدامي.
كان على الجميع أن يعيش هذا الشعور الثقيل والحزن المكثف مثل ظلال قاتمة وأشجار محترقة ومتراكمة، كغابة شاسعة لكن يصعب السير فيها دون أن تسقط وتتدحرج وتجرح وتدمى وتبكي وتعمى.
هكذا كان علينا العيش مع أم مكلومة وتغط في حزن عميق.
فلطالما كانت بارعة للغاية في تحويل كل مناسبة لحزن وكل شعور لقاتم ومعتم وكل وقت هو مناسب لبكاء مفاجئ.
حتى جاء حزنها الحقيقي ولم يلتفت إليه أحد، كنا قد وصلنا إلى حافة الضجر، من إكتئاب ومن الحزن والبكاء والعويل ومن الشجن والغناء الثقيل.
حتى اصطبغت الحياة بلون رمادي قاحل، هل تعرف معنى رمادي قاحل، يكون بين ظلال وصحراء.
وأنا الآن أملك سيلي الخاص، وغابتي الموحشة، وشعوري الثقيل الطيني اللازب، حتى تحولت لصيغة مثخنة بالعتمة.
أنا سيل تلك السحابة القاتمة، التي غمرتني طيلة سنوات عمري.

الخميس، 29 يوليو 2021

وحيد وملعون.

تطرق الباب بنعومة.

انتبه بعد استغراق تام في الأوراق المتناثرة على الطاولة أمامي وقلم في يدي وقلم آخر مغروس في أذني. انتبه متأخراً لاستيعاب المشهد.

‏ممكن ولاعة؟

‏أنسى سيجارة على شفاهي وأنا أبحث عن ولاعة في جيوبي ثم جيبي العلوي ثم بإشارة منها تردني إلى الطاولة حيث ترتاح ولاعة.

‏ممكن.

‏كنت أظن أن هذه ذروة المشهد الممكن لوحيد وأشعث ومتوحش مثلي. لكنها سحبت الكرسي المقابل وفي حركة رشيقة جلست وقد بدا الاستنكار على ملامحي. لتشير مرة أخرى إلى الكوب الورقي والذي استخدمه لأعقاب السجائر.

‏اوه حسناً.

‏بعد ذلك توقفت عن كوني وحيد. لازلت أشعث متوحش لكنني قطعاً لست وحيد.

‏بينما أنفث دخان مالبورو أحمر ويخرج وهو يسعل ويضع الشماغ على كتفه الأيسر ويفرك لحيته الخشنة. تنفث دخانها بكل نعومة وكأنه يخرج مرتدياً تنورة.

‏لم يكن الدخان منتشراً وحده ولكن يخالطه عطر خفيف مثل باقة ورد منتقاة بعناية. تطفئ سيجارتها الأولى ويفوز عقبها بأحمر شفاه زاهي.

‏أرقب المشهد بسكينة.

 مدركاً بما لا يدع مجالاً للشك، أنني الجانب المعتم في هذه الرواية، الجانب الملعون.

‏تتركني لتعود للمكتب.

‏أعود مجدداً. وحيد وأشعث وأغبر ومتوحش وملعون.

يبقى السؤال الملح في عقلي.

‏هل كنت أهرش ساقي بالقلم بينما أنا مستغرقاً كالعادة؟.

الأربعاء، 28 يوليو 2021

أحتطب ظلاً.

 

صباح الظلال الممتدة.

 وأنا صديقة صاحب الظل الطويل. أحاول تفادي تعامد الشمس لأنتهي من الوصول في نصف ساعة.

يمتد ظلي على الأرض، يصعد من أسفل البناء، يتجاوز الخطوط الفاصلة، يمتد وينكسر ويستقيم، ثم يستقر طويلاً وممتداً حتى يبلغ شباك غرفتي.

يطير ظل وظلين وثلاثة من حافة شباكي.

ظلال أجنحة وظل لريشة تتهاوى في الأفق ثم ظل منقار يطارد قمح. ثمة ظلال تنبت من العدم تتجاوز السور لتنطبع فجأة على بلاط مرقع بالأبيض والأسود. تبدأ كبيرة ثم تنتهي مثلما ظهرت من العدم.

ظل قطة تتمطى على السور. ثم تكمل سيرها ثم تتمطى وهي تراقب ظلال عصافير مجتمعة حول شباكي. لن تبلغهم بالتأكيد لكن يمكنها أن تصطاد ظلاً. لكنها تتمطى الآن وليست في مزاج للمطاردة.

تقرب ذيلها ثم تبعده، يبدو الظل طويلاً تارة وتارة يختفي. مادامت في عين الشمس.

وأنا أتأمل ظلي الطويل. وهو يبلغ شباكي ويزيد. وأنا هنا أجر سلاسل عتيقة موثقة في الأرض.

تنزّ حبّات عرق. تتجاوز الترقوة ثم تنساب إلى مابين صدريَّ ثم تنزّ أخرى وتسقط من منابت شعري وتندس خلف أذني.

تهز ساعة معلنة انتهائي من الوقت المحدد.

أتمدد على سرير قطني أبيض، يقسمه شعاع شمس من منتصفه. من فرجة صغيرة تركتها دون ستار، يتسلقني شعاع الشمس، عند أقدامي في البدء ثم ساقي ثم خاصرتي وكأني أشهد تقسيمي إلى نصفين. حتى يستقر على أكتافي. امنحه أكتافي وأنا أحاول إعادة المشهد.

أصنع ظلال عصافير تغادر النافذة، ثمة ريشة تتهاوى، قطة تتمطى، ظل يبلغ الآفاق وجسد منهك لا يبرح مكانه إلا بكرسي متحرك.

السبت، 24 يوليو 2021

حين حلم أنه يحلم.

 عودة الأحلام تدريجياً 

وكأنه يشعر بالوحدة والخوف والأرق، لم يعهد ذلك من قبل، وهذا هو شهره الثاني دون حلم وحيد، يهش به على حزنه، أو يقضي به على عتمته.

حلم وحيد يستيقظ بعده بمشاعر مختلفة حصاد ذلك الحلم

لكنه غالباً مايستيقظ بحزن ليلة البارحة وقرفصاء اليوم السابق

دون أي حضن.

ينتهي اليوم متشكك في تحوله، قد تكون بوادر الشيخوخة، قد تكون حالة طبيعية لكل من يعبر حياته.

 قد يكون أستنزف في شبابه كل الأحلام الممكنة. قد يكون ضعف بصره يمنعه من الرؤية الجيده خلال نومه أيضاً .. ربما أنه يحلم لكن ثقل سمعه وضعف بصره يمنعه من متابعة الحلم.

خالي من حلم

وكأنه تحول لطبل يفزعه فراغ روحه

يستغرق في نومه على يقظة تامة حتى لايفوته بعض حلم

حتى رنّ المنبه لليوم التالي

استيقظ فزعاً يخبر زوجته "كنت أحلم أنه لم يعد بإمكاني الحلم".