الاثنين، 16 أغسطس 2021

المشي كما لو أنني في حالة هرب.

 

في غيمة ضبابية لكنها سوداء.

قضيت وقتاً طويلاً في حالة من التوقف أو كما يقول المفسر لآخر حلم زارني "عندك تعطيل".

هذا التعطيل بدأ يتجذر تماماً، من أقدامي المتعثرة، من حياة باهتة مؤخراً، من كمية كتب تنتظرني في نصف المسافة لتكملتها، من علاقات وصداقات على المحك غادرتها لأنني لا أملك القوة على البقاء أو التمسك أو حتى أضعف الإيمان مثل التخلي.

هذا التعطيل الذي بدأ يتصاعد من أطرف أصابعي وحتى طال مشاعري، لأدخل بعدها في اختبارات من نوع: حسناً نوف هل هذه الإساءة مؤذية لك؟ هل هذا التجاهل مؤذي؟ هل عدم التقدير هنا موجع؟ هل هذا الحديث يؤرق عينيك؟ هل هذه العائلة لازالت تعنيك؟ هل هذه الروابط العميقة بعمر يشرف على منتصف الثلاثين تعنيك تماماً؟ ليتجلى بيت الجواهري: أهذه صخرة أم هذه كبد؟

لأدرك أن التعطيل غطى مساحة كافية من الشعور. وكأن بحيرة من المشاعر الجميلة والحيَّة والقوية والمتحركة تجمدت كلها دفعة واحدة.

ستتعرض لبعض التكسر هنا وهناك ومحاولات طفيفة من الأصدقاء والصديقات لإعادة المياه لمجاريها، لكن سرعان ما تنتهي محاولاتهم بعودة التجمد للسطح.

لست خارج الشعور فقط خالية من الامتنان. لكنني شخص معلق من قدميه بحبل متين من الامتنان، لكل المحاولات لإعادة المياه الراكدة للحركة.

الامتنان الذي يجعلني أحفظ هذه الجمائل في علب أنيقة في حين عوز، على رف عمري.

لا أنسى جميلاً أبداً، كعادة بدوي في رد دينه.

حتى بدأت أتعرف على رياضة المشي.

المشي كما لو أنني في حالة هرب، المشي في طرق طويلة دون توقف حتى تئز أقدامي على أسنانها، السماعات العازلة والأغاني المرافقة والكثير من المسافات المقطوعة بقدر المساحة المتوقفة في حياتي.

بداية بالمشي لمدة عشرين دقيقة، ثم عشرين أخرى إن لزم الأمر، وعشرين إضافية للهرب من حديث مكرر وبليد ومزعج ويسرق صفاء اليوم ويعكر مزاجي، بدأت تتقطع المسافات إلى ربع ساعة وأخرى عشر دقائق، طوال اليوم.

بدأت السحب الرمادية تتبدد شيئاً فشيئاً.

كنت أعلم أني أمر بمرحلة حرجة في عمري، سوداء وقاتمة، وأن هناك خطب ما يقبض على روحها فيحولها للعتمة، والدليل أنها بدأت هذه المرحلة تتبدد شيئاً فشيئاً وأنا في طريقي للهرب مني.

تذكرت "أرحنا بها يا بلال" غير أني لا أملك من الإيمان القدر الكافي لتكون هذه خياراتي، لكنني أيقنت أن هناك راحة كذلك في كل هذه المسافات المقطوعة.

في كل مرة أصر على السير وأتجاوز عقبات أو حتى إصرار على الكسل والتمدد على كنبة مريحة أمام شاشة تلفاز وكتب وركن عامر بالقهوة والشوكلت. كنت أفتح أزرة ضاقت على صدري. أفتح شبابيك صدئة في بيت عامر بالأدخنة.

ثم بتوصية جميلة من صديق جميل، باستخدام تطبيق NRC بدأت تتحسن جودة الحياة مع رفقة لطيفة تحفزك على الاستمرار. الآن يمكنك مشاركة الركض مع الآخرين، الآن لم تعد هذه الوحدة عائقاً أمام مشاركة الإنجازات اليومية الصغيرة مع الأصدقاء، اليوم كان مزاجي سيئاً لأتجاوز مسافة لم أتجاوزها من قبل، لكنني ابتسمت وأنا أتجاوز الأصدقاء كذلك بمزاجي العكر، اليوم أنا في المرتبة العاشرة وتقاعسي غداً سيؤخرني ثلاث مراتب ولكنني سأمر بيوم جيد لأستعيد مرتبتي العاشرة، وكأنني أحاول التخلص من الرقم "13" كلعنة أبدية.

قطعت في بداية مشواري بالكاد ثمانية آلاف خطوة، ثم أصبحت أقطع عشرة آلاف خطوة شبه يومياً، وصلت في يوم لعشرين ألف خطوة وكانت المفاجئة الصادمة أنني أحتاج يومياً لعشرين ألف خطوة لأنعم بمزاج هادئ ويشبه حقيقتي تماماً. من دون أخطاء ولاتجاوزات ولا مشاعر مترامية الأطراف. حتى رغم الأزيز الذي يصرًّ من ركبتي المصابة، كانت هذه المسافة التي أحتاجها لأنعم بحياة ساكنة. أسابق فيها أفكاري السوداء وتحل علي بعض الرحمة. أخرج من مساحة معتمة للنور.

أخرج من كهف لوجه الشمس تماماً في حضور بحيرة هادئة تتكسر فيها الموجات وتحدث فيها الحجارة دوائر متصلة، العصافير التي أطعمتها عمراً تحلق، القطط التي يتحسن مزاجها لأني ابتسم، الهواء العليل الذي يخترقني.

أخرج من الكهف حقاً، لكنني لازلت عند بابه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق