الأربعاء، 5 نوفمبر 2014

Tango.


كان البدء برقصة.
لم تكن الموسيقى هي الأم، ولم تكن الفاتنة هي عنق الزجاجة، لم تكن سلسلة العذابات الدفينة والرغبات والليل الممتد والوحدة، ليس الأمر في الظهر الممتد كسارية ليكون الدافع الوحيد لنغرق في الرقص. أن نرغب أكثر.

لم تكن أكفها الناعمة مثل الشيفون أو نهدها البارز مثل لعنة أو خصرها النحيل المغروس في أصيص العذاب.

لم يكن وكأن جسدي فخّار، لم تمر عليه من قبل لمسة تستفز الحياة الملعونة داخله.

لم يكن هذا كله ولست أكذب.

كان العذاب في المسافة المغروسة بيننا، المسافة التي تتقلص حتى تولد شهقة ثم تموت على أطراف مساحة متوالدة.
كان كل الوجع في عينيها، لم يكن حزنها المعتاد، لكنه الغضب. فتصبح إغماضة جفنها كماء منسكب، ثم نظرة أخرى يتطاير اللهب.

لم أكن أدرك أني أتقن الرقص حتى لمستها، فتحولت لآلة رقص ممتدة لسنوات، وكأنها تعرف تماماً أين تضع عطرها وقلبها ولمستها وهمستها وقدمها الضاربة في الأرض. فأفيق مرة أخرى من حلم، على شهقة.

كأنما كان الحضور هنا، والشموع، الموسيقى، الظلال المتمايلة، العرق المنساب .. هي طقوس إطلاق الوحوش الكامنة في غاباتنا السحيقة.
أنتهي من كوني شخص لبق، حديث منمق، روح هادئة، أذن منذورة بالبكاء.. لينتفض الشر داخلي دفعة واحدة بفعل نقرة كعب.
وكأن هذا الصوت هو كلمة السر ليفتح باب الفتنة ولايغلق للأبد.


الثلاثاء، 4 نوفمبر 2014

هي يو تعال أبكي عنك.


هي يو تعال أبكي عنك. 
وأرمي بكل حزنك على كتفي , فهما لم يتعهدان في حياتهما سوى حمل الحزن والتعب , ولا تجعل صوت أزيز المفاصل يردعك ولا تعجل , فإنما هو دليل حي ولن يموت على زمن عابر وخبرة كافية , كأرجوحة تقف في العراء تحمل النور والظلام بالتناوب , ترتدي حر الشمس ولا يطبطب نسيم البدر حروقها ولكنه يزيد حروق قلبها حرقة , أترك أشياؤك الحزينة فقط والموغلة في الألم و غادرني إلى حيث يضحكون , ويفرحون ولا يبكون , إلى حيث يعيشون حياتاً هنيئة بلا أدنى غصة ولا أقل وجع , إلى حيث يذهبون دائماَ بدوني , إلى اجتماعات الأصدقاء , إلى اجتماعات الأهل , إلى اجتماعات الناجحين الكادحين , بل حتى اجتماعات الفشل والسخرية منه دوني .
واتركني هنا , في ركن الزاوية أستقبل الأحزان والأتراح حتى ما بعد الثانية , أحصدهم جميعاً لا أنسى منهم أحداً , كما ولا أنسى أن أتبسم , فكلهم بعد حزني عليك وبكائي عنك لا يعدون من الحزن شيئاً , أتبسم , كما ولو أني أجمع ذكرياتي العابرة في صندوق مخملي يضم الصوت والهمس والحركة وعبق حتى آخره بالرائحة , يحوي ماضٍ في داخله دون أن يفرط منه بشيء ومن دون أن يختنق به , كعلبة ألوان معدنية تحمل في داخلها أربعة وعشرون لحظة دون أن تختلط ألوانها أو تختفي الرائحة وأبقى في سري كفرشاة حزن وحيدة , تغتسل كل مرة من ألوانهم لتبقي على سوادها طاهرة .
ولا تشفق علي , فأكثر ما يغيظني الشفقة , تلك التي لا نعي أصلها , وكأنها من بين المشاعر كلها "نَوَر" , تأتي بكل أنواع الرقصات المطلوبة منها ولا تتقن لها رقصة ولا تفكر أن تبتدع , اتركها فأنا أمقتها , وأي إحساس من هذا النوع لأي أحد هو لا يمنحه سوى تعاسة تتضخم لتدفعه لطريق معتم وربما "س س سأنتحر ..!" 
وأنام وأصحو لأدرك إنما أنا مسمار علق على الحائط عبث. 
شعور قارس بالقلق.

الاثنين، 3 نوفمبر 2014

ظــل "Espresso"

 .

الاسبريسو تُّعدْ الذهن الصافي والسيجارة تحمله على خيط الدخان عالياً حيث يرقد المزاج اللعين , يرهقني فعلاً وأحاول الحصول له على أي مهدئات أو مخدرات تقضي عليه .. أي سمَّ هارٍ أسكبه له في كأس واختار له نخباً
(game over ) أو (time out)
.
أريد أن أسقيه له بيدي هاتين حد الثمالة , حتى ينتهي ذلك السباق اللعين بيني وبين الزمن وأتنفس الصعداء وأحبس كل الهواء النقي داخل علبة صدر معبأة بالأدخنة .
ثلاثون سنة وأنا أركض في مضمار ولم يحدث أن شاهدت أحد المتفرجين ولا أوقفني حكم , أزيد كل مرة من سرعتي لأسبق ولو جزءاً من الثانية الثانية التي أصمتني بـ"تك" وكل ثانية أتأكد أنها سبقتني ..
أركض في مضمار هو نفسه يجري .
فأر زينة يحاول التغلب على عجلة صنعت لتسليته ويرهق نفسه للتغلب عليها " هذا أبلغ وصف ينطبق علي " .
ستجدني النسخة المتحركة من الحظ العاثر , وأول من تنبأ بمزاجي العكر ونفسي السيئة أمي , فكانت توبخني كل مرة أسرق فيها كوبها الأخضر المعتق وأشربه بارداً وأتلذذ بالسرقة أولاً والمعتق ثانياً , سمعتها مرة تخبر أبي أني سأقضي عليها باكراً بعدما خطفت من يدي فنجان أم سعيد جارتنا والتي قرأتْ فيه موت ابنها , المتعة في الباقي من كدرة القهوة التركية في أعقاب أكواب أولئك النسوة المعدَّة للقراءة ويبدو أني لعقت كل الحظ العاثر الذي يعترض طريقهم , ليتأكد لي إنما أنا حظ عاثر متحرك والنسوة في حياتي محض كدرة
يالـ أمي المسكينة .. ماتت قبل أن تُعلَّم حفيداتها التطريز والخياطة ,قبل أن تُعلًّمهم أصول إعداد السفرة وأصول الضيافة وطريقة تقديم القهوة السادة الواجبة في العزاء , قبل أن تعلمهم أسرار قراءة الكف ونشر الودع والصدف وكيف تفسد كتابة القهوة التركية بالتفسير ..

بناتي الأقل حظاً من بين البنات فسيكبرن بسرعة وبفراغ , دون أن تختلط رائحتهن برائحة طيبة جدة , من غير عبق ريحانها السكينة ولا غصن سدرة تزرعه تحت وسائدهن لتمنع الأحلام الفاسدة من التطاول , من غير خرزة زرقاء تخبئها في طيات ثيابهن تمنع عيناً وحسداً .سيكبرون دون أن تُطبع على شفاههن كلمات أمي ولا على حياتهن تجاربها .
وأنا المسكين الذي ترك زوجته تغادر دون أن يحظى بابنة تحمل كروموزوماتها , تأخذ ضحكتها المكتومة وغمازة خدها اليمين و ذقنها المتحفز لقبلة , من غير بحة الكلام وصمت الخجل وصخب العفوية البالغ من غير أي ذكرى حيَّة يبتسم لها ..
غادَرَتْنِي و غادْرتُني ..
لا تظن أني أقلب أيامي السوداء أمامك أشكو الوحدة , فالوحدة عزاء قلبي , أما عقلي يا صاح فيشكو العتمة و الشريط المشغل فيه رديء ‘ الصورة مهزوزة والصوت في كامل ضجته وبقية الحواس معطلًة .


الدماغ فوضى عارمة , يحتاج لتصويب فوهة مسدس نحوه ليهدأ الجميع فيه ويستكن سموت الخوف أكيد من الرجفة , لكني أعرف جيداً أن أول من سيستسلم للمسدس ويرفع يديه هو النوم ..
النوم
النوم
النوم .
مذ رحيلها لم أذق طعم النوم , أرق طويل بلا انقطاع , وفزع متواصل , كل يوم أعد حلم عودتها بكامل زينتها وابتسامة رضى على ثغرها ولا تأتي .. رغم أني أستقبل النوم بكامل أناقتي .. فلا هو يحضر ولا الحلم يحضر ولا هي تزورني في يقظتي ..
ولا أعلم لما قد تكون غاضبة مني لهذا الحد , كانت ملاكاً ورأيت من الواجب أن لا تدنسه لمساتي ولا تعكر مزاجه همساتي , خبأتها في زجاجة كعصارة خمر معتقة يجب أن تبقى مرفوعة لذلك اليوم الذي ربما نموت وهو لم يأتِ بعد , للًّحظة التي أتطهر فيها من سواد ودنس وكذب وخداع وتتخلص هي فيها من أجنحتها ثم تلقي طوق الملائكة من على رأسها , نعود لعهد آدم وحواء من غير أن يزاحمني إبليس في دمي ولا تمنعني هالتها الفضية من أن أعيشها ..
وترميني بتهمة الخيانة بعد ذلك ؟ , هي كثير علي وأنا حافظت على المسافة المقدرة بيننا وفتشت في جموع النسوة عن امرأة لعوب ماكرة تشبهني تعرف معنى السيجار البني والليالي الحمراء وكيف تسرق الساعة من اليد دون أن يشعر أحد , فيلعن كلانا الآخر من غير أن يشعر بسوء أو يساوره ندم , نكون شخصين ناضجين لا يبحث أحدهما في الآخر غير بشر .
تعرف أن داخل كل شخص بيت صغير يغلقه عن الآخرين لا يدخله أحد وأنا خفت عليها عند الدخول لذلك البيت أن تصاب بالربو أو تنكسر , البيت الخرب فتحته لكل النسوة عداها والآن فقط أدركت أنه يحتاج ليديَّ مَلَك ليعيد بناءه والملك نفض ريشه وغادر .
بارد وثقيل هذا هو مزاج أيامي الأخيرة ..لا تعجب من خلطي أعقاب السيجار بالباقي من الاسبريسو ستعرف ذلك الطعم عندما تعود للبيت وبيدك عاهرة ..
ششششششششش ..
نعم ..
عاهرة , ألبسها طوق الملائكة وأطلب منها أن تتحدث بعفوية وتضحك بدون صوت بغمازة على خدها اليمين و شعر في دبوس وكأنه انتهى للتو من ترتيب المنزل , لكنهم يفشلون دائماً بالتصنع لا أحد يمكن أن يكونها بعدها أتحول لوغد ثم أسحبهم من الناصية الكاذبة وأطعمهم للطريق كلاباً ضالة .


وأنت الملام في ذلك ولا تعتب , حضورك الصامت ورحيلك الصامت يخلق في نفسي الفراغ المدمر , ذلك المدى الطاحن , أخرج لك بداية نهاري استقبلك على عتبات المقهى و اختار لك مزاجك المفضل وجريدتك المفضلة و كتابك منزوع الأفكار وأناولك الشاي وأشعل السجاير وكل مرة أحاول تبديد صمتك بكمية لا بأس بها من الضجيج والصخب المعجون في صدري , اختار لك حزناً , ضحكة , فرحاً , حباً , خوفاً وتحتفظ ملامحك في جميع الحالات بوجه معفر معتم ذي خلايا ميتة كالح أسود , أخرج لك وكلي إنسان يحاول يصنع من الطريق إليك حكاية ويحبك أغنية ذات سلم موسيقي معوج يناسب تفكيرك ويعود منك خالي اليدين لا حكايا ولا أغانٍ , صديق ينتهي به الطريق لهاوية يسقط منها إلى بقع سوداء متناثرة في حياته وكميات من الفشل المراق والعفن ..


العفن ..

لا أعلم وأنا أردد كلمة العفن لم أشرت إلى صدري ..
طين أنا رطب وعندما تطرق هنا سيفتح لك الدود وقلبي شجرة الزقوم التي تتفرع أشواكها في أنحاء جسدي , تنهش النوايا الحسنة قبل أن تولد , جففني من عصارة الندم وأزح عن وجهي طبقات الملح ..
أشعر بجوع وعطش ..
وأن أحمل صحناً فارغاً ..
أن أسير بثياب متسخة رثَّة ..
أن ينطبع الرماد على شفاهي ..
لا يعني ذلك أني فقير ..
الفقر يجيد التلَّون كالحرباء ..
أتريد أن ترى الفقر بوجهه الحقيقي .
أنظر لوجهي .
ستعرف كل معاني الفقر ..
فقر المشاعر مدقع ..
وفقر الحب كارثة ..
وفقر الحيلة بالغ السميَّة ..
وفقر الحياة موت ..
لذلك ستجدني مت ثلاثين في عمري وأكثر..
أنا مجرد جثَّة تتجول في الطرقات , أنياب كلاب ضالة , مخالب ذئب , قطة تفتش في القاذورات , وأقدام بشر وبصاق بشر ومخاط بشر , ومناخ بارد جاف يخترق الصدر , تسير الجثة تبحث على وجه المنفى عن قبر .
.
يا ظل يا نزق , يا إمعة يا تافه , متى تنفك عني أو أتخلص منك , طوال هذه المدة وأنا أشحن همتك , أحاول فتح لغة للحوار معك , إيجاد طريقة للتفاهم ولكنك لا تفهم , والصمت يأكلني ويدفعني حثيثاً في الكلام والكلام دون فائدة ..
إما أن لاتعود بعد رحيلك هذه المرة , وإما أن نتبادل الأدوار والأمكنة .
  
 .