الجمعة، 20 أغسطس 2021

شهار وصوت طاحونة يدور في رأسي.

كيف نكتب بهالطريقة؟
كيف!؟ مافهمت
يعني اذا كنت أنا معتمدة على خيالي فقط ولغتي والوصف فأين المشهد والحبكة المطلوب كتابتها. 
والمطلوب؟
حظهم .. 

الكتّاب. 

أقلّها تلهمه شخصية عبود اللجة .. وهو يدخل عليهم في مقهى شعبي.. بشماغ أكل عليه الدهر وشرب.. وكأنه يضعه على كتفه يخبئ داخله أسراره أو يثبت به أكتافه الهزيلة، وهو ينادي بصوته كله: شاهي مننتاااز. يتكئ على النون وكأنها عدد ملاعق السكّر المطلوبه في براده. 
صوته الجهور رغم ضآلة حجمه وكأنه في حياة سابقة يعمل مايكرفون. يتجه مباشرة لزاوية المقهى وطاولته الأخيرة.. ثم يبدأ صف الضومنة وهو يتحدث لأصدقائه المنتظرين حادث سير صادفه في طريقه وتفاصيل الحادث وموديل السيارة وتخمينات بمدى سوء الحادث .. بعدها يطلب سيجارة ويلعن ارتفاع الأسعار .. رغم أنه لايملك حق البكت ولايعرف كم بلغ سعره.. فهو يحمل بكت فارغ ويتظاهر كله مرة أنه للتو ينتبه لإنتهاء السجائر .. ثم يطلب ممن هم حوله سجارة. 
لعبة قديمة والكل يعرفها لكنهم يدارون على كرامة عبّود اللجة في كل مرة. 

تعرفين حتى اختيار اسم عبّود اللجة غير مناسب للقصة .. ويتضح كيف أني أحاول المرور عبثاً للشارع .. ثم أعود مجدداً للحديث عن ماذا لو تحدثت أدمغتنا بمعزل عنّا.. ماذا لو اخترنا أحلامنا قبل النوم.. ماذا لو أن المسافات التي أقطعها في الحلم تخسرني بعض الباوندات .. ماذا لو اخترت الحلم المناسب حول لغة جديدة أتعلمها.. وكل يوم أبدأ درس جديد وأستفيد من ساعات النوم المهدرة والتي لاينام فيها دماغي بشكل تام ولكنه يبدأ في الدوران والركض والصراخ والضحك وكأنه أخيراً تخلص مني ليبدأ دورته في الحياة. 
تماماً مثلي وأنا أؤجل النوم لساعات طويلة سعيدة بالهدوء الذي يعم المكان بعد عاصفة العائلة الكريمة .. 

والآن عن الأحلام يالله.. هل تعلمين أنني بدأت أشك أنني كل يوم أترك نافذة مفتوحة يتسلل فيها واقعي لأحلامي .. يختلط الصوت واللون والظل في واقعي بالأبيض والأسود في أحلامي.. فأصحو إما على واقع يفقد ألوانه أو أحلام شديدة السطوع تصيبني بالصداع. 

ماذا عن عبّود؟ 
عبّود.. 

عبّود كان من الممكن أن يكون شخصاً جيداً للغاية، مثل مايتمنى..الرجل الوحيد الذي يجيد التعامل مع الأسلحة بكافة أنواعها في قبيلته، الرجل الوحيد فيهم الذي أخذ على عاتقه تدريب كل من يقترب منه بطريقة هادئة على علوم المرجلة.. طريقة اختيار البن .. تنقيته .. غسلة .. حمسه .. واللون المناسب من الحمس لألذ قهوة.. ولاتغسل الكفكيرة الصفراء البالية بالصابون واكتفي بشطفها بالماء والأسفنج .. يكرر على أحمد تدري ليش؟ علشان نكهة البن فيها تبقى معتقة.. وكأن للكفكيرة ذاكرة مهمة في إنضاج القهوة كل مرة بالنكهة ذاتها. 

ماذا حصل ليتحوّل؟
لا أحد يعلم ذلك .. فكل المحيطين به الآن هم أصدقاء منحتهم له المدينة، لا أحد يعرف عن عبّود سوى اللّجة.. ولم يصادف أحد من قريته ليحكي عن هذا التحوّل. 

ماذا تظنين؟
كان يحب فتاة ربما.. منع من الزواج بها .. لأنها منحت لصديق والدها في سدّ دين عنه. 
ربما..
أو أنها انتظرت طويلاً لتتزوج به.. لكنه لم يجرؤ على الزواج بها لأنه بدوره تزوج من زوجة أخيه الذي وافته المنيّة في حادث سير. 
ربما..
أو أن مناير بنت جارهم دست لهم عمل .. لأن الحب أعمى. 
ربما..
وربما كان ذلك بعد اكتشافه أنه عقيم لاينجب.. وكل ماتعلمه من علوم المرجلة وكل دروس أبيه له لن يرثها منه أحد. 

لكنه مضطر للغياب في رحلة للمدينة المجاورة .. للبحث عن عمل .. في البدء كان يذهب للمدينة كل يوم في بداية النهار ثم يغادرها آخر الليل لقريته .. وهو يشعر بالإختناق في شارع مزفلت ومضاء ومحاط بالمنازل على جانبيه.. مثل جواسيس قائمة من حوله تلتقط أفكاره.. يهرب من هذا التوجس والريبة بحثاً عن أرض فضاء مشغولة بما في داخلها أكثر مما على ظهرها لتراقبه. 

وبعدين؟ 
اضطرته الطرق الطويلة والمسافات البعيدة كل يوم لهجره للنوم أبداً.. هكذا يبدأ يومه وينهيه دون أن يغمض له جفن. 
كيف تقابل رجلاً مستيقظاً منذ عام؟
كيف ستبدو ملامحه. 
كيف سيكون وجهه خارج هدوءه .. بعيون جاحظة. بقلق دائم.. بصوت عالي. 
كيف سيتفقد قلمه وساعته وجيبه العلوي ومحفظته كل ثانيه في حركة دائمة وكأنه في بحث دائم عن مفقود. لكنه لايدرك أن النوم لن يكون منتظراً في أحد جيوبه. 

ماذا بعد؟
شهار. 

كانت زيارته الأولى لهذا المشفى بناءاً على طلب أحد أصدقاء الطاولة. 
وهو يركز يده على صدغه ويعد دقات قلبه، يكرر بصوت مذهول.. عبّود وكأنك تعيش بقلبين. هذا النبض لايتوقف ولايهدأ. 
أنت بحاجة ماسّة لتدخل طبي.. هذا الدوران والركض والقلق بحاجة لزر إطفاء وإعادة تشغيل. 
ايه يامحمد.. أنا تعبان. 
وأحس أن قلبي نهايته ينفجر .. مثل كفرات سيارة خالد.. ينتفخ وينفجر.
مثل بطارية جوال علي. 
أو أن قلبي كبير علي.. يعني المفروض أكون مثلك طول وعرض علشان يقدر يهدأ قلبي والدم اللي يرسله مسرع مايرجع له. 
ولا أنا كبرت وقلبي في طفولته لسا. 
مدري .. 
عبّود أنت تاخذ أدوية؟ أحد وصف لك أدوية من قبل؟ شيء يعني ممنوع ولا مضروب..
ماخذ شيء غير حبتين بندول كل يوم.. اسكت فيهم صداعي.. آخذهم من جارنا في القرية .. 
هذي هي عندي منها كم حبة.. 
يفرغ جيبه في يد الدكتور محمد. 
محمد يشهق بأعلى صوته بندول ياعبّود .. ولا أبو ملف.

الاثنين، 16 أغسطس 2021

المشي كما لو أنني في حالة هرب.

 

في غيمة ضبابية لكنها سوداء.

قضيت وقتاً طويلاً في حالة من التوقف أو كما يقول المفسر لآخر حلم زارني "عندك تعطيل".

هذا التعطيل بدأ يتجذر تماماً، من أقدامي المتعثرة، من حياة باهتة مؤخراً، من كمية كتب تنتظرني في نصف المسافة لتكملتها، من علاقات وصداقات على المحك غادرتها لأنني لا أملك القوة على البقاء أو التمسك أو حتى أضعف الإيمان مثل التخلي.

هذا التعطيل الذي بدأ يتصاعد من أطرف أصابعي وحتى طال مشاعري، لأدخل بعدها في اختبارات من نوع: حسناً نوف هل هذه الإساءة مؤذية لك؟ هل هذا التجاهل مؤذي؟ هل عدم التقدير هنا موجع؟ هل هذا الحديث يؤرق عينيك؟ هل هذه العائلة لازالت تعنيك؟ هل هذه الروابط العميقة بعمر يشرف على منتصف الثلاثين تعنيك تماماً؟ ليتجلى بيت الجواهري: أهذه صخرة أم هذه كبد؟

لأدرك أن التعطيل غطى مساحة كافية من الشعور. وكأن بحيرة من المشاعر الجميلة والحيَّة والقوية والمتحركة تجمدت كلها دفعة واحدة.

ستتعرض لبعض التكسر هنا وهناك ومحاولات طفيفة من الأصدقاء والصديقات لإعادة المياه لمجاريها، لكن سرعان ما تنتهي محاولاتهم بعودة التجمد للسطح.

لست خارج الشعور فقط خالية من الامتنان. لكنني شخص معلق من قدميه بحبل متين من الامتنان، لكل المحاولات لإعادة المياه الراكدة للحركة.

الامتنان الذي يجعلني أحفظ هذه الجمائل في علب أنيقة في حين عوز، على رف عمري.

لا أنسى جميلاً أبداً، كعادة بدوي في رد دينه.

حتى بدأت أتعرف على رياضة المشي.

المشي كما لو أنني في حالة هرب، المشي في طرق طويلة دون توقف حتى تئز أقدامي على أسنانها، السماعات العازلة والأغاني المرافقة والكثير من المسافات المقطوعة بقدر المساحة المتوقفة في حياتي.

بداية بالمشي لمدة عشرين دقيقة، ثم عشرين أخرى إن لزم الأمر، وعشرين إضافية للهرب من حديث مكرر وبليد ومزعج ويسرق صفاء اليوم ويعكر مزاجي، بدأت تتقطع المسافات إلى ربع ساعة وأخرى عشر دقائق، طوال اليوم.

بدأت السحب الرمادية تتبدد شيئاً فشيئاً.

كنت أعلم أني أمر بمرحلة حرجة في عمري، سوداء وقاتمة، وأن هناك خطب ما يقبض على روحها فيحولها للعتمة، والدليل أنها بدأت هذه المرحلة تتبدد شيئاً فشيئاً وأنا في طريقي للهرب مني.

تذكرت "أرحنا بها يا بلال" غير أني لا أملك من الإيمان القدر الكافي لتكون هذه خياراتي، لكنني أيقنت أن هناك راحة كذلك في كل هذه المسافات المقطوعة.

في كل مرة أصر على السير وأتجاوز عقبات أو حتى إصرار على الكسل والتمدد على كنبة مريحة أمام شاشة تلفاز وكتب وركن عامر بالقهوة والشوكلت. كنت أفتح أزرة ضاقت على صدري. أفتح شبابيك صدئة في بيت عامر بالأدخنة.

ثم بتوصية جميلة من صديق جميل، باستخدام تطبيق NRC بدأت تتحسن جودة الحياة مع رفقة لطيفة تحفزك على الاستمرار. الآن يمكنك مشاركة الركض مع الآخرين، الآن لم تعد هذه الوحدة عائقاً أمام مشاركة الإنجازات اليومية الصغيرة مع الأصدقاء، اليوم كان مزاجي سيئاً لأتجاوز مسافة لم أتجاوزها من قبل، لكنني ابتسمت وأنا أتجاوز الأصدقاء كذلك بمزاجي العكر، اليوم أنا في المرتبة العاشرة وتقاعسي غداً سيؤخرني ثلاث مراتب ولكنني سأمر بيوم جيد لأستعيد مرتبتي العاشرة، وكأنني أحاول التخلص من الرقم "13" كلعنة أبدية.

قطعت في بداية مشواري بالكاد ثمانية آلاف خطوة، ثم أصبحت أقطع عشرة آلاف خطوة شبه يومياً، وصلت في يوم لعشرين ألف خطوة وكانت المفاجئة الصادمة أنني أحتاج يومياً لعشرين ألف خطوة لأنعم بمزاج هادئ ويشبه حقيقتي تماماً. من دون أخطاء ولاتجاوزات ولا مشاعر مترامية الأطراف. حتى رغم الأزيز الذي يصرًّ من ركبتي المصابة، كانت هذه المسافة التي أحتاجها لأنعم بحياة ساكنة. أسابق فيها أفكاري السوداء وتحل علي بعض الرحمة. أخرج من مساحة معتمة للنور.

أخرج من كهف لوجه الشمس تماماً في حضور بحيرة هادئة تتكسر فيها الموجات وتحدث فيها الحجارة دوائر متصلة، العصافير التي أطعمتها عمراً تحلق، القطط التي يتحسن مزاجها لأني ابتسم، الهواء العليل الذي يخترقني.

أخرج من الكهف حقاً، لكنني لازلت عند بابه.