الأحد، 6 سبتمبر 2020

ممكن أم مستحيل.

 في السابع من نوفمبر.

الساعة التاسعة مساءاً.

عندما عاجلها الخبر، قبل حتى أن تتخلى عن حلم بليلة فاتنةـ عن الدانتيل الفرنسي باللون الدامي، والخبر الذي أدمى قلبها.

سارة .. أنت طالق.

حتى بلقيس فالح لم تراعي فؤادها المفطور وهي تكمل أغنيتها عبر المذياع " لست أدري ياهوانا ممكن أم مستحيل ... آه مستحيل".

لم تكن مصدقة تماماً. ظنتها إحدى مزحاته العابرة، تقدمت خطوتين وهي تضحك .. طالق!

يحضر صوت بلقيس " آه من صرخة صوتي تتوارى خلف صمتي".

يرتفع صوته .. أغلقي المذياع بالأول .

لاتستجيب ..

يقطع المسافات بسرعة، يطفئ المذياع .

يكرر حديثه .. أنت طالق.

كل هذه اللحظات انتهت واللحظات اللاحقة ولم تشعر حتى  توقفت أمام منزل والدها .. وهاتفها يرتجف من رجفة يدها.

هاهي في غرفتها التي لم تدم طويلاً مذ غادرتها، بضعة شهور فقط مرًت على زفافها، مسحت عن ملامحها كل أثر لزينة أم أن حزنها من فعل، تبقى أثر لكحل تحت عينيها وكأنها تعلن الحداد، وكيف أن هذه الكلمة فطرت فؤادها بالفعل .. هاهي تتحرك دون شعور بالأسى أو رغبة بالبكاء، كأنما هي تتجول خاوية تماما كجثة، جثة عروس، لم تنفد أفكارها عن الفرح بعد، عن المفاجئات، عن الليالي الحمراء والأيام القريبة من الجنون، لم تبدأ تفكر بعد حتى تنتهي كلها دفعة واحدة وتنهار على رأسها، لكنها انتهت بالفعل.

تبتلع غصة بحجم كل اللحظات الجميلة السابقة وكل الكلمات التي يتردد صداها داخلها.

أنت طالق! .. والسبب؟

تغالب حزنها وتحاول جاهدة إسترداد حياتها السابقة، لكنها لم تعد تعرف كيف، لقد دسً أحدهم يده العارفة تماماً في روحها ودنسها، لم تعد مجرد فتاة ودفاترها وأقلامها وأجمل تصاميمها وفساتينها فقط، لقد دنسها الحب وحولها لهشيم.

مضى اسبوعاً على صمتها، أمها تطوف حولها كمن قُرص. تريد أن تعرف عن هذا الحزن أكثر غير أن تنبيهات زوجها بعدم فتح الموضوع أو السؤال حتى تتركها تطوف في صمت.

 تدخل غرفتها باكراً، وتخرج متأخرة،  تغلق الأبواب، تفتح النوافذ وتستغرق في الصمت،  دون أدنى فكرة.

يستمر الصمت لشهر.. يطلبها والدها للحديث.

طلبتني!

تفضلي.

آمر؟

اليوم بعد صلاة العصر، زارنا أبو طلال، كان يحاول يوضح الموضوع رغم أنه لايزال غائب عن عقلي، طلال طلقك تحت رغبة أمه الملحة.

ويقول عدًاك العيب والنقص. وهذا صندوق الذهب وهذه حقيبة الصور.

خير .. خير..

تغادر وهي تقبض على قلبها, والنقص الذي حدث هنا، بيد من؟


السيد بطيئ جداً.

 الساعة السابعة والنصف..

يستمر المنبه في محاولات إيقاظه، يستيقظ السيد بطيئ. السيد بطيئ جداً.

يمد يده اليسرى لتوقف المنبه. وعبثاً تحاول الوصول إليه، تحاول جاهدة في إسكاته ويبدو لها أبعد مما تظن حتى تقرر تركه في منتصف المسافة بينهما. غارقاً في ضجة التنبيه، تسقط يده ثقيلة ومنهكة.

كل شيء يبدو بطيئاً هذا الصباح, بالكاد تصل إليه أشعة الشمس يشعر بذلك، رغم أنه نجح في إزاحة الستائر بالكامل.

يقف مطولاً أمام جهاز القهوة، يقف طويلاً دون أن يلاحظ أن كوبه قد أصبح جاهزاً للشرب، يشرد مجدداً حتى يعيده صوت جهاز المايكرويف بصوته للواقع. يبتسم بإمتنان كمن يهز رأسه شاكراً."حسناً منحتني المساندة اللازمة لأبدأ".

يتحرك هائماً، بطيئاً كمن يسبح، يسبح بالفعل في زحمة السير، يتوقف عند الإشارة ليلتقط أنفاسه وكأنما كان يدير السيارة بقدميه. تعيده مزامير التنبيه لرشده، فيكمل طريقه.

يصل، يحاول دون جهد منه كمن حفظ المشهد إيجاد مكاناً متاحاً لركن سيارته، يخرج حاملاً بين كفيه رأساً ثقيلة. كل خطوة يخطوها للأمام تتجذر فيها أقدامه حتى سابع أرض، حتى يصل أخيراً .. يرفع رأسه كمن يحاول التذكر للحظة.. يفتش محفظته، أوراقه، هاتفه النقال، يرفع رأسه ليتأكد "قسم الأورام".



الأربعاء، 2 سبتمبر 2020

طرف ثالث للبتر.

 

طرف ثالث.

بينما هي توشك على الانتهاء من غسل فناء المنزل الخارجي. حتى بدأت مربعات البلاط المرقعة بين الأبيض والأسود تشع مجدداً. فناء منزلهم البالي. وقد رفعت قميصها القطني المخصص لمثل هذه المهام ثم جمعته على خصرها بعدما انتشرت عليه بقع مبيض الغسيل كالنار في الهشيم. بشعر نصف مبتل ونصف مرفوع. بحياة تقف في المنتصف. وهي تقف مجدداً على نهاية المهمة لتسحب لي الزريعة لتشطف به أقدامها المتسخة كرفع شارة النهاية بتمام مهمتها الأسبوعية.

في منظر سريالي بحت ولو كان يحدث باستمرار في حارة صغيرة وبعيدة عن وسط المدينة. لكنه يحدث بالفعل بمنتهى الغرابة. تشطف آخر بقع طينية وتشطف أقدامها تباعاً. فيزاح الطين من ساقيها فيلتف حول كعبها المتصلب ثم ينتهي سريعاً هارباً نحو المربعات المرقعة بالأبيض والأسود وينتشر بعيداً حتى لا يكاد يبين. يفعل ذلك مثل سجين هارب. يتلاشى في دوائر. كل ذلك يعيدها لتلك اللحظة الخالصة من قبل.

تستيقظ من تلك اللحظة والتي طافت بها في دوائر بفزع على صوت أمها. الصوت المرتبط بالفزع.

يأتي حاملاً أمراً في طياته ويستعجل لحظة شرود محتملة تعيدها لدوائر الطين القابعة تحت أقدامها.

لطالما اعتبرت نفسها هذه البقعة وكأنما قد غسلها سعود عن أقدامه مؤخراً وهو يخبرها بمدى رغبته في الزواج من حبيبة عتيقة وقد عاشا بعض اللحظات سوياً قبل أن يعرفها. ويسهب في ذكر لحظاتهما معاً وذكرياتهما معاً مستطيباً بالذكريات وكأنما هو يكرر غسل أقدامه عنها هي.

تستيقظ مجدداً على صوت أمها مكرراً أوامره المركونة بصوت قاطع " لعبتي في الماء".

تتنبه للماء وقد تحلّق حول أقدامها محاولاً خلق بركة. تغلق الصنبور وتركن مكنستها على الزاوية وتدخل وهي تعصر طرف قميصها بيديها في استراحة محارب لمواجهة القادم من مزاج متعكر.

تبدأ في خلع قميصها ليصادف ذلك وقوفها أمام المرآه. فعلت ذلك في هدوء وهي تزاحم فكرة خلع سابق. بينما هي تسقط رثة مثل قميص بال. حتى جسدها أصبح يشعرها بالفقد. فقد كل تلك الكلمات التي طالما كررها سعود على مسامعها. في كل لحظة جمعتهم سوياً. خلال سنة زواجهم الأولى. كل كلمات الغزل التي لم تسمعها من قبل والتي ظنت أنها مخلوقة من أجلها. تنظر عن كثب وهي تحرك يدها على منعطفات جسدها بينما تتذكر يده تحاول رسمها وهو يكرر "ولا غلطة ". كيف صنعت منها هذه الكلمة ملكة اللحظات القادمة في كل اجتماع عائلي وفي كل مناسبة. تركتها هذه الكلمة تصادق الفساتين الأنيقة وتصبح رفيقة الدانتيل والشيفون والحرير. كيف كانت على علاقة وطيدة بالألماس والذهب. تتذكر ذلك وهي تحاول فتح درج التسريحة المتعثر بمساميره الصدئة والمنعكفة في محاولات إصلاحها الأخيرة له. بالكاد يفتح عن حقيبة مجوهرات صغيرة .. لم يبقى داخلها سوى خاتم ألماس وحيد. ساعد في الحفاظ عليه انخفاض قيمته عند محاولات بيعه بقيمة لا تجدي نفعاً. فقط لو كانت قيمة الخاتم في اللحظات التي شهدها أو في التاريخ الذي صنعه أو في الأوقات التي طافت حوله في غرور. لكان هذا الخاتم يستحق أكثر مما عرض له.

يعيدها صوت خارج الغرفة مرافقاً لطرق عنيف على الباب صوت إلى الواقع. وسلسلة من المهمات التي بالانتظار. دون لحظة سلام وسكينة واحدة تتركها تواجه حزنها ووحدتها بعيداً عن الأضواء. وكأنما هي طريقة أمها البدائية في عدم تركها لأحزانها. إلا بصناعة أحزان جديدة.