الأحد، 5 يونيو 2022

حزن دبق مثل عسل في اليد.


مات خالي الطيَّب منذ أربعة أيام. لكنني لم أفهم حزن أمي عليه، فلم يكن ذلك الحزن الواضح، البكاء والفجيعة والصياح وكل مظاهر حلول المصيبة.

لكن على العكس، كان بحر من الهدوء الذي لا يبشر بخير.

أعرف أنها حزينة للغاية، لكن هذا حزن لا ألمسه، مثلما أني أسير بموازاته، لا يظهر للعلن، وليست جروح طفيفة ولكنه حزن ينخر العظم.

تنتظرنا أيام رمادية، أيام ثقيلة وعلينا السباحة فيها شعوراً وإحساساً ورتابة مثل بقعة طينية.

هكذا كانت علاقتنا مؤخراً، أنا وأمي ولاتزال. قد كانت أكثر شراسة في سن مبكرة ومتطلبة، لكنها الآن تنحى منحى الصمت، مثل كلام طويل لطالما قوبل بمنتهى السميَّة، حتى يكف عن المحاولة وينفض الكلام أكفه من المحاولة ويختار السكوت.

كنت اخترت منذ وقت "سكت الكلام عن الكلام" عنواناً. هذا بالفعل ما أعنيه، المسافات الآمنة التي تعيش فيها كلاً منَّا، دون أن تتجاوزها إحدانا لتبلغ الأخرى.

كأنما كانت تملك كل واحدة فينا مربعات خاصة بين الأبيض والأسود كرقعة شطرنج، لتتحرك فيها بمعزل عن الأخرى.

لا تلمسني أمي سوى في مناطق الوجع، ولا ألمسها إلا في الكلمات الحادَّة، دون تربيت على الأكتاف ولا طبطبة على الظهر، حتى أن تزورني الحمَّى وتغادر دون كف باردة تقيس مدى خطورتها ولا تمتمات بالمعوذات. كل هذا الدور العظيم كان على عاتق أبي.

لكننا اعتدنا مع العمر هذه الكرات الزجاجية التي تعيش فيها كلاً منَّا دون أن تخدش الكرة الزجاجية للأخرى.

لكنها في وفاة خالي كانت تبحث من بين عيون ناقلي الخبر عن عيني حتى أنفي هذا الأمر برمته، كنت أحاول مغالبة دموعي كمن يحاول الصمود، لكنه مهزوم قبل أن تبدأ معاركه. وقفت في حزم أحاول بيعها كذبة مؤقته تمرر الوقت أو تجعلها أكثر تقبلاً للفكرة وحقيقة الأمر. لكنه حدث. لقد مات خالي بالفعل. خالي الطيَّب جداً والذي يحمل معه ذاكرة أبي.

خالي الذي قد أكون ورثت حب القراءة منه، بينما لا أتذكره إلا يحمل كتاباً أو صحيفة أو مصحفاً ليقرأ. هل ذكرت لكم أنه مدرس رياضيات كذلك. هل أخبرتكم عن المرَّة التي مسك فيها رأسي بينما أجلس كطفلة بين قدميه استمع لحديثه: "هالبنت مخها ألماس .. ألماس .. لكن عليه طين وحجارة وجزء عليه فحم، يبغاله دعك".

تذكرت هذا الحديث الذي دار بيننا اليوم، بينما أختي تسألني عن موضوع طرحته من قبل وتؤكد لي أني طرحت هذه الفكرة من قبل. كنت متشككة من الأمر لكنني علقت " ممكن _ يا كثر أفكاري".

يا كثر أفكاري.

ولا أظن كل هذا الصداع المتراكم والقلق والتعب والسخونة إلا جراء تراكم الأفكار في رأسي، كأنما تتكثف السحب في رأسي دون أن تمطر.

هذا الصباح تظهر على ملامح أمي ملامح الفقد. ما أخافه سؤالها الساعة كم؟ احنا صبح ولا ليل؟ أفطرنا ولا باقي؟  هذه الدوامة من التيه والوجه والضبابية.

"أبد يمَّه احنا الوقت اللي تبين وش ورانا؟".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق