الاثنين، 15 مايو 2023

من شوَّه سمعة بنت الليل؟

 

اه لو لم تشوَّه هذه الكلمة ومعناها؟ لكنت أنا أولى بها.
بنت الليل!
من سعى في تشويه الصورة الغنية خلف هذه الكلمة، انا ابنة الليل، ابنة السكينة في لياليه الطويلة، ابنة هذا الوقت الفاخر المعتق مثل كأس صافي من الهدوء.
وهذه موسيقى تنتشر مثل حفنة من نعيم تمسَّ شغاف القلب، أفكارك الخالصة والخاصة دون تشويش كشهد مصفَّى.
العقل الذي يتوقف في نهاية اليوم عن الركض وعن القلق وعن الانزعاج والتعب والمحاولات إلا عن الاسترخاء والكتابة أو لا شيء.
وسهري الممتد لعشرين سنة مثل كنز دفين لا يعرفه سواي، قاتم وممتد وخفيف يتهدل مثل قميص ناعم عن أكتافي.
القراءة في هذا الوقت وشموع منثورة في الأفق، ضوء خافت مكثف في زاوية القراءة، كرسي والدي العتيق مثل سيجار بني فاخر، ولا شيء يسرقك من الاستغراق والانسجام التام. وكأنها في كل ليلة إنما هي إعادة خلق.
كيف تم تشويه هذا الاسم الشفاف والأنيق، كأنما هو فستان أسود طويل وعقد من اللؤلؤ الناصع وعطر يطوف حوله مثل هالة يتحرك وينتشر أينما امتد طرف الفستان. إلى تعرٍ فاضح وغنج محبوك مثل صنعة وشعر أجعد وملوَّن ورائحة مبتلة وعفنة وفرقعة علك وضحكات صاخبة كنداءات مكشوفة وواضحة للمارة وعطر فاضح يحاول الوصول إلى أبعد نقطة. وبنت الليل قد قضت تلك الليلة مع عشرة لا تتذكر أسمائهم.
وعشرة أسماء منكرة، انتهوا من مهمة مزاولة رغباتهم، ثم خرجوا من ذلك الباب مسحوا أكفهم الدبقة وبصقوا عليه وقالوا دون اكتراث للكلمة "بنت ليل".
لتنظر تلك الساقطة لهذه الكلمة وكأنها شتيمة، تسقط عند أقدامها وتدعسها مثل علك لزج تحاول التخلص منه، ترى فيه إساءة تنفض أكفها عنه. وربما حتى تتطهر.

الخميس، 2 فبراير 2023

ولادة برعم جديد، يحمل بشارة.

 

لطالما آمنت بكل ولادة، أنها تحمل في داخلها بشرى، هذا الفأل، وكأني أتحوَّل لعجوز يعني لها "دلق القهوة خير" وتظن أن "انكسر الشرَّ" على كل ما ينكسر بدون قصد. حقيقة تؤمن بها عميقاً دون تفسير واضح ولكنها تحملها في داخلها.

وأنا أحمل في داخلي هذا اليقين، أن كل ولادة هي مقابل للموت، وكل ولادة هي مساحة تتمد للحياة مقابل مساحات تتضائل للموت، لذلك هذه الولادة بشرى.

ولادة برعم جديد يعني اخضرار سيحمله لي هذا اليوم.

فاليوم كان هناك أكثر من ولادة، برعم نبات ينمو في مركن الزرع في أقصى الغرفة ودون مراقبة ولا اهتمام بالغ.

 وبينما أعبر موقف عصيب وأنا أطوف في دوائر الغمَّ حول فكرة حزينة، وأفكر في كل ما يمكن أن يجعل هذا اليوم الثقيل يمرّ. دون فكرة واضحة لطمأنينة.

حتى كانت بشارة ولادة حيواني الأليف لثلاثة صغار وهالة الأمومة تطوف في المكان وتنيره.

حمل هذا الخبر المفاجئ هذا الشعور بالسرور.

مسرَات صغيرة.

أعادني هذا الحدث والبهجة به والمسرَّات حوله، لطفولتي في الثامنة من عمري، بينما أطوف في البيت وكأن لي من السعادة أجنحة، لا أركض بينما أطير، لأن "حوش المنزل" في ركن قصي يحتضن ثلاثة قطط صغيرة مولودة.

بينما تنتهي كل ساعات اليوم وكل رغباته في الطواف حول هذه القطط ومراقبتها، بينما تشرب الحليب الدافئ الذي صنعته لها، أو محاولاتها العمياء للوصول  لقطعة الفرش الذي سرقته لها. أو حتى مشاهدتها تحاول بلوغ ثدي لم تكن في المشهد.

مراقبة وترقب وانسجام تام للحظة التي لا تكف فيها قطط صغيرة عن المواء وعن محاولات تبيين طريقها وتلمسه للدفء.

كأنما كل هذا الكون الرحب والصاخب ليس سوى دائرة ضيَّقة مرسومة حولي أنا وحول هذه القطط.

حتى أعادني للواقع وهذا الصخب، توجعي من كوب شاي ساخن ينكسر على ظهري بينما أحاول المرور بين يدي أختي نحو هذه القطط الثلاثة للمرة العاشرة ربما..

هكذا فجأة يسدل الستار على لحظة غارقة في التواصل والانسجام والدهشة ونتحول لمشهد موجع ومتمدد على بطنه ويرضخ للتجارب المنزلية للتخفيف من حدة الحرق.

تطل هذه الطفلة الآن، من بين أكوام السنوات المتراكمة، تحتفي بهذه الولادة من جديد وترى فيها بشرى.

تنسى يوم عصيب مرت به مقابل هذه المسرَّات الصغيرة واعتقاد يشبه "دلق القهوة خير" و"انكسر الشرَّ" مقابل ولادات جديدة تحمل بشرى.

الثلاثاء، 24 يناير 2023

الفتاة التي تحولت إلى شجرة.


كنت أحاول تسلق شجرة هذا كل ما في الأمر، كنت أحاول وضع قدمي الأول على جذع متين من شجرة اللوز، فمن مبادئ التسلق من المهم أن تعرف أين تضع قدمك الأولى.

أتحسس جذع الشجرة المتين، الأشواك البارزة في كل مكان مثل إشارات واضحة للتراجع، بينما أتذكر شجرة التوت في فناء عمي، شجرة السدر وأنا أحاول الوصول لنقطة قريبة تمكنني من التقاط النبق البعيد والشهي، شجرة الجوافة في أحواض الزرع في منزلنا، كل الجواف الطازج واللذيذ الذي التقطته في طفولتي حتى تحوَّل قطف الجوافة في موسمها مثل طقس من طقوس يومي.

لكنني نسيت تماماً كم أصبحت هشَّة مؤخراً، أو كم أصبحت غضَّة ولينة للغاية، حتى أن الأشواك هذه المرة تكاد تصل للعظم، بينما ألعق جروح سببتها هذه الأشواك وأنا أتحوَّل لقطة. تعالج كل شعور لديها باللعق.

ألعق جرحاً حارقاً على ساعدي حتى يصل لكفي، وأنا غاضبة تماماً من قطة على أعلى جذع الشجرة تحاول هي الأخرى لعق كفها، بينما أمتلئ خوفاً من أن تعلق في الأعلى ولن يصل إليها أحد وبالتأكيد لن تحاول العودة لي.

أفكر في تسلق جذع شجرة اللوز ولكن هذه المرة تقفز الأنثى داخلي وكأني لا أرتدي سترة رياضية وساعة لاحتساب الخطوات بل فستان سواريه من الساتان اللامع وبحذاء عالي لخطو خطوات ضيَّقة وراقصة.

أحاول التسلق مرة أخرى وأنا هذه المرة أفكر في أظافري التي صبغتها مؤخراً وخوفي أن تتكسر، بينما تهديني الشجرة الغاضبة جروحاً أخرى على الكف الأيسر.

انفض أكفي الحارقة بينما يسري في دمي الكلوروفيل وكأنما سأخضَّر وأتحوَّل لشجرة. لا ترعبني فكرة العصافير التي ستحوم حول رأسي حتى لو كنت مصابة بالصداع، ولن تكدر خضرتي قطط تهرب من أصحابها وتلعق أطرافها بينما أعين خائفة تترقبها في الأسفل وتلعق جروحاُ سببتها لها، لن يؤذيني أكثر من أني سأقف على الدوام كشجرة منزوعة الحرية في التنقل أو أن يحجبون عني نور الشمس.


الأربعاء، 4 يناير 2023

في بيتنا قطة تشبهني.


    مثل طرف كم عالق تحت جاكيت ضيَّق، كما لو أنك دعست بقدمك أرض رطبة بعدما ارتديت لتوَّك جورباً دافئاً، كياقة قميص مبللة، أو ربما كقالب ثلج يضعه أحدهم من فتحة قميصك لتنساب بين أكتافك على غفلة، قالب الثلج الذي يترك ياقة قميصك مبللة.

صوت الأظافر على الحائط، اصطكاك أسنان ببعضها، فرقعة علك في قاعة اختبارك، صوت منبه في غرفة مجاورة بينما تغلبت أخيراً على أرقك وبعد ليلة طويلة من التعب. اتصال واتس أب.

اصطفاف رف من الكتب بشكل مثالي إلى أن يبرز طرف أحدهم دون اكتراث وبشكل مائل يمدَّ لسانه في وجهك، امتداد السجاد تماماً على مربعات الرخام اللامعة والمعقمة حالاً ولاتزال رطبة جراء المسح بينما ينحرف طرف السجاد مائلاً عن طرف الرخام، لينسكب كوب القهوة من يدك وأنت تحاول تعديل هذا الميلان البسيط ليستقيم.

مثل أكف شوكولا تختار شاشة تلفازك تطبع عليها قبل أن يحرز فريقك المفضل هدف الفوز. وأن يتحوَّل أحمر الشفاه الزاهي من ماركتك المفضلة لقلم تلوين.

هذا الصرير على الأسنان تماماً بينما في بيتنا قطة.

في بيتنا قطة تشبهني، جميلة جداً لكنها لا تعرف ذلك، ذكيّة لدرجة أنني لا يمكنني حبسها في صندوق الرحلات قبل الخروج، أحتاج في كل مرة أن أخلق حيلة جديدة، لديها سمع مرهف وتبدو لامعة جداً وهي تنصت محاولة فهم الأصوات من حولها وتمييزها، فضولها لمعرفة الحياة من حولها دون الاستغراق في هذا الفضول. يكفيها أن تفهم. رغم أنها قطة لكنها لا تموء أكثر مما تنبح. لديها إصابة بالغة ربما عضّة كلب في نحرها الطويل مما جعلها في خوف دائم وفي حدَّة. مرتابة على الدوام ولا تحب أن تمتد يدي إليها تمسَّدها قبل أن تطلب هي ذلك. لكنها لا تكف عن الدوران حولي ومسح وجهها في ساقي بينما ترفع ذيلها كناية عن الحب بمجرد أن أنتهي من معالجة جرحها أو أن أقدم لها الطعام.

ورغم ذلك قضيت اسبوعاً كاملاً في صرير أسنان من شعور على الدوام مزعج، أن ترتاح قطة على حجري وأنا أنهي كتاباً للقراءة وهي تراقب ذلك بتركيز شديد، ألا أتحرك إلا وكائن غضَّ وهشَّ وبإصابة بالغة في نحره يمر بين أقدامي مثل خطوات محفوظة، أن يترك شعراً عالقاً على ملابسي بعد أن نزعت ملابسي السابقة لنفس السبب، أن تنتهي من لعق أكفها ثم تسندها تماماً على ركبتي في رغبة ملحَّة لاحتضان، ورغم الفراش الوثير والدمى التي تنازلت عنها لتزيين سريرها فهي لا تنام إلا على كنبتي المفضلة. وكل كتاب بين يدي سيكون مصيره اللعق وعقبه البارز ستختاره لهرش جرح بالغ في نحرها تتم معالجته.

في بيتنا قطة، تترك بيني وبينها وأترك بيني وبينها مسافة آمنة من عضَّ.


الخميس، 16 يونيو 2022

كسل يبدو فاتن في روب الاستحمام.

 اطلع فيني هيك هودي مش عينيك.

تصدح الأغنية في الغرفة بصوت عالي، بينما أنا لازلت في روب الاستحمام لم أتجفف بعد وليس لي رغبة في الخروج منه، تستحثني كارول سماحة على الرقص، بينما أنا أتمدد في كسل على صوفا متهالكة تشبه طاقتي مؤخراً، أتمدد على الكنبة تتكشف ساقي بينما أحاول مدَّ يدي للوصول للريموت كنترول لأرفع الصوت أكثر. بينما تركت كتاب لطيف ينتظر على الطرف، هل أخبرتك أني لم أعد أستطيع القراءة إلا متبطحة ووسادة ناعمة تحت صدري لأتغلب على ألم عضلات الأكتاف مؤخراً.

يدور شريط كامل من الأغاني والفيديوكليبات من أمامي، فضل شاكر بينما يغني روح ياحبيبي روح وأنا أتذكر غيرتي عليه في فيديو كليب أغنيته " مأثر فيٍّ وفي عيني" وأنا أقترب من الشاشة وأردد معه " شوي شوي عليَّه". وهو يحاول احتضان المودل وأنا أكرر "مودل يحتاجها في الفيديو أكيد .. هذه حركات ليس عفوية أبداً بينما هي مكتوبة ومدروسة ومكررة ربما ألف مرة لتظهر بهذا الشكل". لكنها قطعاً الأغنية التي تركت شرخاَ في علاقتي مع فضل شاكر. هكذا لم يعد يبدو لطيفاً ولا شهياً. 

بعدها يختار التلفاز أغنية قلبي مش مطمن لإيهاب توفيق وليست أغنيتي المفضلة له بينما أحببت له أغنية "غلطان في غيرتي عارف علشان عليك خايف" وهي تشرح شعور الغيرة المخيف الذي قد يجعلني في علبة محكمة الإغلاق فقط ليهدأ شعور الغيرة. 

ثم يدخل إعلان في منتصف المشهد يتركني ألتقط أنفاسي عن هذه العصرية الباهتة، أعود للقراءة ربما أو لالتقاط صورة بينما أنا أبدو فاتنة هذا اليوم. هل قلت فاتنة، هذه الكلمة تتركني في ابتسامة لطيفة بينما أتذكر غزل أختي وأنا أتخطى درجات القاعة في فستان ضيَّق وبظهر مفتوح وفتحة للساق تسمح لي بالتخطي ربما " فتنة الحفل زيدي مشيتك مخطرة" كانت ابتسامة غامرة وكأنها تشعَّ من روحي.

هكذا أنا دائماً أبدو فاتنة جداً بينما أبدو حزينة، هذه الهالة الفضية واللامعة على وجنتي وعلى ابتسامة ثقيلة معلقة على شفاهي، حتى أني سأبدو بلهاء جداً في الفرح. هاهي روبي وأغنيتها " ليه غاوي تفارق ليه وتبعد ليه" بينما أترك الصوفا وهذا الحزن يتحول لرقصة، أنا أرقص عندما أكون حزينة، وكأن الرقص في حزن جلي يأخذ روحي في خطواته، ألاحق خطوات روبي في الرقص بينما أتذكر نورة وهي تكرر أتذكرك في روبي وأغنياتها. 

رقصت حزينة مرة على أغنية نوال الكويتية " ضاقت عليك ومالقيت إلا أنا تقلي اش رايك في محبوبي الجديد " وعلى أغنية شيرين " كتر خيري إني قابلته واستحملته ياقلبي زمان .. يجي عليه وأعديها ويسوء فيها معايا كمان ومن كتر عمايله بقول له كفاية أنا وأنت بقينا خلاص سيرة على كل لسان".

ورقصت حزينة وأنا أنفض يدي من المحاولات بينما أفاجأ بأغنية ماجد المهندس في حفل لندن " هذا آخر كلام وياك أعلن انسحابي .. ضيع لي شبابي". وكنت أسمعها لأول مرة وكأنما كنَّا في مشهد مسرحي وهذه الأغنية قمة المشهد.

بينما صفوف من الحاضرين الحفل كلها تعلن انسحابها من شعور ما وهي تردد بصوت أعلى من صوت ماجد، وأنا أرقص بخطوات حزينة ومرتابة وتعرف القرار الأخير وأكيدة منه لكنها تؤجله.

أف..

ينتهي اليوم بأغنية إلهام مدفعي "خطَّار عدنها الفرح".

هكذا يبدو الفرح زائر خفيف ومنتشي وليس لديه رغبة سوى في الزيارة ولانية له البقاء. لن يقبض على كفيك بشدة ولن يغمرك في أحضانه ولن تصل معه حتى إلى النشوة. وحده الحزن يحمل هذه الأحاسيس العميقة والقوية والتي تحفر في روحك. لن تغادرك هذه السنوات مهما اصطنعت البهجة، أنت حزين في ملامحك وفي ضحكاتك وفي صوتك الذي تجره وكأنه نواح، كأنما هو صوت من سنوات بعيدة، عيونك التي تفضحك مهما بالغت في ابتسامتك، مهما كانت خطواتي فاتنة وضحكتي تربط القلوب بخيوط رفيعة لكنها لاتزال ثقيلة بالحزن مهما بدت رشيقة لك. 

أرمي الريموت كنترول، وأنا أرمي فعلياً محاولاتي كلها في صنع السعادة دفعة واحدة. هذا دور ثقيل ولم أعد قادرة عليه. ليس بيدي أن أحمل العتمة في صدري بينما أحاول إضاءة ابتسامة على شفاه كل من يهمني شأنه. سأكون حزينة الآن من داخلي وستتسرب هذه العتمة حتى من أناملي.

هل تعرف كيف سيبدو الأمر، إنه مثل شخص يرفع صوته عالياً لينفي عنه تهمة النعاس بينما أرفع صوتي بالضحكات حتى أبعد عني تهمة هذه الحالة الرمادية.

عذراً يجب أن أتوقف الآن فطلال يغني "تعلَّق قلبي طفلة عربية".


الاثنين، 6 يونيو 2022

إلى صديقة مصابة بالأرق.


ترددت كثيراً قبل كتابة هذه التدوينة، ربما لأول مرة اختبر مثل هذا الكتابة عن تجربة حيَّة أعيشها، عادات بسيطة لتحسين جودة اليوم.

 

في البدء كان هذا الركض:

وسبق وتحدثت عن تجربة الركض في تدوينة سابقة، عن كهف المشاعر الحالك، الأحاسيس الضيَّقة مثل قميص قديم، والأيام التي نقضيها سباحة في الرتابة. هكذا مصادفة تعرفت على المشي والركض، في تحدي بين الأصدقاء، كانت الأيام الأولى شاقة مثل أن تنتزع نفسك من الكنبة. الخروج من الصالة والكنبة المريحة وحتى شيء بسيط مثل أن تختار الحذاء المناسب للركض.

كان اسبوعاً شاقاَّ ثم تحوَّل الأمر إلى حبل نجاة، أمد له يدي كلما حاولت الخروج من شعور ضيَّق يتصعد حرجاً في السماء.

هكذا تحوَّل أمراً مثل المشي لعادة مع الوقت، حتى بدأت في تحديد مستوى جودة اليوم من عدد الساعات التي مشيتها أو الكيلوات التي قطعتها.

أتذكر أن أكبر مسافة قطعتها وحسبتها لي الساعة في حدود العشرين ألف خطوة. كان ذلك اليوم هادئاً جداً ومتمدداً في استراحة، ينظر للناس والعالم والحياة وهو مبتسم. حتى كانت الدهشة " أوه نوف هل أنت بحاجة لعشرين ألف خطوة للوصول إلى هذا المزاج الصافي جداً".

 

حتى سقطت في جنة اليوقا:

مصادفة جميلة عرفتني بها، رابط وحديث مع صديق عن اليوقا والتأمل والاسترخاء بعد حديث مشترك عن الحياة المزدحمة والركض الذي لايتوقف حتى لو كنَّا نسبح في الرتابة. عما تسقطه على كاهلنا مواقع التواصل الاجتماعي من تحديات في محاولات مجاراة الإنجازات التي من حولنا. مثل سبعة كتب في سبعة أيام، مناقشة فيلم ربما، الحديث عن مائة كتاب إن لم تقرأها فأنت عار على الثقافة والقراءة، عازفون إن لم تطرب لموسيقاهم فأذنك الموسيقية تحتاج تنظيف.

حتى شاركني قناة على اليوتيوب رفعت عليها المدربة تحدي لممارسة اليوقا لثلاثين يوم فقط.. والانتقال من مستوى متوسط لمستوى أعلى خلال هذه المدة.

كان الحماس في البدء للمشاركة وفي التنافس ذاته، الانتقال من تحدي لآخر للفوز فقط، حتى كان الاستعداد لليوقا في أول أربعة أيام قطعة من العذاب وجزء من المشقة، مثل واجب ثقيل وسمج ولا أنظر للهدف منه بقدر الانتهاء منه في سباق.

حتى الاستعداد كان في عجل والركض لايزال في صدري لملاحقة بقية اليوم، إلى اليوم الخامس والذي استيقظت فيه بهدوء ولم أغادر السرير بعد، في تململ واضح وتعب وعدم رغبة في النهوض مجدداً. مثقلة بليلة البارحة، حتى أكدت لنفسي بصوت مسموع أن هذا يوم بحاجة لجلسة يوقا.

عندها عرفت تماماً أن هذه التجربة لن تمر مرور الكرام ولن تمضي بدون أن تترك أثرها علي، وهذا الأثر جميل ولطيف، وبدأ ينعكس على مشاعري طيلة اليوم، حتى لو كانت الحلقة لا تتجاوز العشر دقائق في الغالب، السكينة التي تحلَّ علي بعدها والطمأنينة التي تبدأ تنتشر مثل بقعة لون فاتحة في كوب ماء، بدأت الجلسات بدون تخطيط وبدون أدوات مجهزة. بدأت في التسوَّق وأنا أفيض بهجة. كأنما وقعت على عنوان كتاب بديع للقراءة. التسوَّق بدءاً بشراء الشموع برائحة اللافندر، مات، حبال للتمدد، قفازات مطاطية، جوارب للثبات أكثر على المات. حتى أن التسوَّق لهذه الجلسات التي لاتتجاوز نصف ساعة في اليوم قد تأخذ وقتاً أطول منها.

بدأت في البداية فقط للانتهاء من التحدي ومتابعته، لكنني بدأت في الأسبوع الثاني انتبه وأنصت جيداً لجسدي، العضلات التي يستهدفها تحدي اليوم، هل تحمل هذه العضلات بعض الآلام الخفية عني، الاستطالة والمرونة والتي سأحظى بها لبقية اليوم. الحلقات التي تبدأ تتدرج بين صعبة في حلقة وسهلة في الحلقة التالية. ثم بدأت التركيز على التنفس خلال هذه التمارين. حتى الجلوس بعد الانتهاء من كل حلقة لبضع دقائق في وضعية الجنين على الجانب الأيمن دون أفكار تدور مثل عاصفة، وأنا أرتب التنفس ليتمدد في جسدي بالكامل.

فكانت نافذة فتحت في حياتي فجأة، ودخل من خلالها خطوط نور دافئة.

 

مغطس كما في الأفلام:

بدأت بعدها في إضافة مغطس دافئ كل ليلة قبل النوم، مغطس دافئ مع أملاح وشموع وكتاب. حتى لو أني سأكون حريصة طوال النصف ساعة في محاولات حفظ الكتاب من البلل. لكنها تجربة كانت ساحرة كذلك مثل الأفلام. لازلت لم أجرؤ على أن استمتع بالموسيقى بعد. لكنني شعرت وكأنني فتاة في مشهد مقتطف من فيلم، بتسريحة شعر متهدله وتسقط على وجهي.

لكنه شعور غامر بالهدوء، مثل عودة للطبيعة، لاحتضان دافئ، وصوت الماء يثير في الروح المتلاطمة الرغبة في أن تهدأ وتنسجم.

 

كوب من الأعشاب بدلاً من كوب من القهوة:

إضافة بسيطة على ركن القهوة، علبة من الأعشاب من اليانسون والبابونج والشمَّر، بكميات متساوية، كانت خياري في كل مرة أخرج من المغطس الدافئ لأحظى بكوب.

 

إضافة بسيطة قبل مغطس كما في الأفلام:

كانت فكرة إضافة تدليك الجسم بفرشاة جافة، تحريك للدورة الدموية من الأسفل لأعلى، ابتداء بالقدم اليسرى وحتى الأكتاف، حريصة على الضغط والفرك، لتحريك الدورة الدموية ولم أكن فعلياً مهتمة بتحريك الدورة الدموية التي لن تتوقف حتى أحفزها على الحركة، لكن كان الشعور اللطيف في الدغدغة.

 

الشمس.. الشمس:

في محاولة لتحسين جودة النوم وضبط الساعة البيولوجية، كان من الضروري التعرض للشمس نصف ساعة في الشروق ونصف ساعة قبل الغروب، وترك فرجة في الستائر طوال اليوم ليدخل منها النور لضبط ساعة اليوم مثل ساعة شمسية.

 

حتى في نهاية الشهر المنصرم، وجدت أن كل هذه العادات العصيبة في بداية الأمر والثقيلة، قد تحولت لعادات لا يمكن أن أتخطى اليوم دونها، حتى صارت تحدث دون انتباه مني لها، دون جهد واضح. تحدث مثل تعاقب طبيعي لليوم.

 

هل سيتمدد هذا الشهر للأشهر الباقية، هل ستكون كل هذه العادات ممتدة لبقية الشهور، أم سيوقفها الملل في طريق الحياة، هل ستتعثر أم ستبقى صامدة. لكنها كانت جزء شاق في البدء وتحوَّل مع مرور الوقت لفسحة شاسعة لضبط مزاج وحشي وبريَّ ومنفلت لمزاج أكثر سكينة.

الأحد، 5 يونيو 2022

حزن دبق مثل عسل في اليد.


مات خالي الطيَّب منذ أربعة أيام. لكنني لم أفهم حزن أمي عليه، فلم يكن ذلك الحزن الواضح، البكاء والفجيعة والصياح وكل مظاهر حلول المصيبة.

لكن على العكس، كان بحر من الهدوء الذي لا يبشر بخير.

أعرف أنها حزينة للغاية، لكن هذا حزن لا ألمسه، مثلما أني أسير بموازاته، لا يظهر للعلن، وليست جروح طفيفة ولكنه حزن ينخر العظم.

تنتظرنا أيام رمادية، أيام ثقيلة وعلينا السباحة فيها شعوراً وإحساساً ورتابة مثل بقعة طينية.

هكذا كانت علاقتنا مؤخراً، أنا وأمي ولاتزال. قد كانت أكثر شراسة في سن مبكرة ومتطلبة، لكنها الآن تنحى منحى الصمت، مثل كلام طويل لطالما قوبل بمنتهى السميَّة، حتى يكف عن المحاولة وينفض الكلام أكفه من المحاولة ويختار السكوت.

كنت اخترت منذ وقت "سكت الكلام عن الكلام" عنواناً. هذا بالفعل ما أعنيه، المسافات الآمنة التي تعيش فيها كلاً منَّا، دون أن تتجاوزها إحدانا لتبلغ الأخرى.

كأنما كانت تملك كل واحدة فينا مربعات خاصة بين الأبيض والأسود كرقعة شطرنج، لتتحرك فيها بمعزل عن الأخرى.

لا تلمسني أمي سوى في مناطق الوجع، ولا ألمسها إلا في الكلمات الحادَّة، دون تربيت على الأكتاف ولا طبطبة على الظهر، حتى أن تزورني الحمَّى وتغادر دون كف باردة تقيس مدى خطورتها ولا تمتمات بالمعوذات. كل هذا الدور العظيم كان على عاتق أبي.

لكننا اعتدنا مع العمر هذه الكرات الزجاجية التي تعيش فيها كلاً منَّا دون أن تخدش الكرة الزجاجية للأخرى.

لكنها في وفاة خالي كانت تبحث من بين عيون ناقلي الخبر عن عيني حتى أنفي هذا الأمر برمته، كنت أحاول مغالبة دموعي كمن يحاول الصمود، لكنه مهزوم قبل أن تبدأ معاركه. وقفت في حزم أحاول بيعها كذبة مؤقته تمرر الوقت أو تجعلها أكثر تقبلاً للفكرة وحقيقة الأمر. لكنه حدث. لقد مات خالي بالفعل. خالي الطيَّب جداً والذي يحمل معه ذاكرة أبي.

خالي الذي قد أكون ورثت حب القراءة منه، بينما لا أتذكره إلا يحمل كتاباً أو صحيفة أو مصحفاً ليقرأ. هل ذكرت لكم أنه مدرس رياضيات كذلك. هل أخبرتكم عن المرَّة التي مسك فيها رأسي بينما أجلس كطفلة بين قدميه استمع لحديثه: "هالبنت مخها ألماس .. ألماس .. لكن عليه طين وحجارة وجزء عليه فحم، يبغاله دعك".

تذكرت هذا الحديث الذي دار بيننا اليوم، بينما أختي تسألني عن موضوع طرحته من قبل وتؤكد لي أني طرحت هذه الفكرة من قبل. كنت متشككة من الأمر لكنني علقت " ممكن _ يا كثر أفكاري".

يا كثر أفكاري.

ولا أظن كل هذا الصداع المتراكم والقلق والتعب والسخونة إلا جراء تراكم الأفكار في رأسي، كأنما تتكثف السحب في رأسي دون أن تمطر.

هذا الصباح تظهر على ملامح أمي ملامح الفقد. ما أخافه سؤالها الساعة كم؟ احنا صبح ولا ليل؟ أفطرنا ولا باقي؟  هذه الدوامة من التيه والوجه والضبابية.

"أبد يمَّه احنا الوقت اللي تبين وش ورانا؟".